سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الصحافة السودانية بين الحجب والاعتقال والمصادرة.. و«الرقيب» الحاكم بأمره «نجلاء» الصحفية.. الأمن صادر 4 كاميرات من منزلها لنشرها فيديوهات لبطشه بالمظاهرات على «الإنترنت» وحقق معها 4 أيام
انتهينا من لصق بوسترات عوضية على جدران شقة يسرا، ثم جلسنا لتناول غدائنا، وتحركنا سريعاً إلى مستشفى الخرطوم التعليمى لمقابلة المدونة نجلاء الشيخ، دخلنا من البوابة الرئيسية للمستشفى، وسألنا عن نجلاء التى أودعها زوجها قسماً خاصاً فى المستشفى نظراً لتدهور الخدمة الصحية فى الأقسام المجانية. دخلنا إلى «نجلاء» التى تربعت فوق سريرها وبجوارها فتاة يبدو أنها مقربة جداً لها، فكونها تزور نجلاء فى المستشفى وتجلس إلى جوارها لتلبية مطالبها، وتهزم خوفها من أن يبلغ عنها أحدهم أو يلقى القبض عليها لأنها على صلة بواحدة من أشهر الناشطات السودانيات، التى فضحت انتهاكهات حكومة البشير ضد شعبه الأعزل فإنها حقاً صديقة ومقربة جداً. رحبت بنا «نجلاء» وصديقتها عندما علما أننى صحفية مصرية، وزاد الترحاب أكثر عندما علمت أن سبب تأخرنا على موعدها هى زيارتنا لأسرة الشهيدة «عوضية»، فنجلاء لديها ذكريات مع هذه العائلة، فهى من القلائل الذين خرجوا لتغطية المظاهرات، التى اندلعت بعد مقتل «عوضية» لمدة 3 أيام، بل ورفعها على حسابها عبر الموقع الإلكترونى «اليوتيوب»، لتعتقل بعد ذلك تأديباً لها على تصوير هذه المظاهرات التى تعد خطاً أحمر بالنسبة لحكومة البشير، وهو ما أخبرنى به أحد المحققين فى جهاز حفظ الأمن والمخابرات السودانية فيما بعد. المظاهرات التى صورتها «نجلاء» وكانت سبباً لاعتقالها، لم تخلُ كعادة أى مظاهرات سودانية من الاعتداء على المواطنين، وإلقاء القبض على بعضهم، بالإضافة إلى تكسير كاميرات الفيديو التى صورت الحدث، ما جعل الأمن يتعقبها بعد ذلك، لدرجة مداهمة منزلها وإلقاء القبض عليها فى غياب زوجها ومصادرة كافة أجهزتها الإلكترونية من أجهزة حاسوب محمولة وكاميرات فوتوغرافية. تعتدل نجلاء فى جلستها لتقص علينا سبب وجودها فى المستشفى قائلة: «داهمت الشرطة شقتى واستدعتنى لمدة 4 أيام متتالية، أذهب إليهم فى مكتب الأمن فى التاسعة صباحاً، ويطلق سراحى فى العاشرة بعد تركى طوال هذه الفترة فى مكان مكشوف، حيث الشمس عمودية على، رفضت خلالها تناول الطعام الذى كانوا يحضرونه إلى لدرجة جعلتنى أصرخ فى وجه أحدهم مرددة: «لن آكل من هذا الطعام الذى اشتريتموه بقوت الشعب السودانى». بعد هذه الجملة لم تشعر نجلاء إلا بوجودها فى مستشفى الخرطوم التعليمى فى أحد الأقسام العامة، بعدها نقلها زوجها إلى قسم خاص حتى تتلقى رعاية أفضل، نجلاء كغيرها من السيدات رغم قوتها وقدرتها على تحمل المتاعب فإنها ما زالت تتذكر نظرة الخوف فى عيون أولادها الأربعة، الذين تجمعوا فى سرير واحد محاولين الاختباء عن أعين قوات الأمن، التى لم تأبه لوجودهم أكثر من اهتمامها بمصادرة جهاز حاسوب ثابت و3 أجهزة محمولة، بالإضافة إلى 4 كاميرات فى محاولة لمنعها من تغطية أحداث الحراك السياسى السودانى. لم تجد نجلاء معها سوى هاتفها المحمول وشريحة صغيرة قررت بهما مواصلة نشاطها، فهى عضو مؤسس فى حركة «قرفنا» وجمعية «لا لقهر النساء»، كانت تتوجه إلى مكان الاحتجاجات وتستعير من أصدقائها هاتفاً ذا كاميرا عالية الجودة إن وجد، ثم تضع فيه شريحتها استعداداً لتغطية الأحداث، ثم تذهب مسرعة إلى منزلها لتحميل ما صورته على مدونتها وقناتها على «اليوتيوب». تغيب عنا «نجلاء» لبرهة محاولة متابعة آخر التطورات السياسية عبر هاتفها المحمول ثم تعود مبتسمة: «نجاح الاحتجاجات السودانية أمدنى بأمل شديد جعلنى آكل وأتعافى حتى أشارك زملائى فى استكمال ثورتهم». بعدما أخبرتنى «نجلاء» بجهودها فى محاولة تغطية المظاهرات وما يحدث فى الشارع السودانى، سألتها «إذن لماذا يوجد تعتيم إعلامى وخاصة فى الجرائد فمنذ أن وصلت إلى السودان لم أقرأ خبراً واحداً فى جرائدكم عن مظاهرات أو احتجاجات بسبب سياسات الغلاء؟»، هنا أجابت الفتاة المرافقة لها عن سؤالى للمرة الأولى منذ جلوسى مع «نجلاء» قائلة: «لأن الكتابة عن المظاهرات أو انتقاد سياسات الرئيس البشير خط أحمر». انتبهت إليها وإلى كلماتها دون أن أعرف ما المقصود بالخط الأحمر، عرفتنى بنفسها: «أنا اسمى فاطمة الغزالى، رئيس القسم السياسى بصحيفة الجريدة السودانية، وسبق أن حكم على بالسجن لمدة شهر أو دفع غرامة مالية قدرها ألفا جنيه سودانى، لأننى كتبت مقالاً عن قصة ناشطة سودانية تدعى «صفية» ظهرت على شريط فيديو وهى تتهم أجهزة الأمن باغتصابها أثناء القبض عليها». لم أفهم هل رفعت الدعوى القضائية لأنها نشرت خبراً كاذباً أم لأنها لم يكن معها دليل قوى لما سردته الفتاة، فكان الرد: «رفعت دعوى قضائية ضدى لأن الموضوع كان يتعلق بجهاز الأمن، الذى يعتبر أيضاً خطاً أحمر بموجب قانون الصحافة السودانى لعام 1991، الذى ينص على أن أى اتهام بالتشهير ونشر معلومات كاذبة عن قوات الأمن من شأنه أن يؤدى إلى المحاكمة على الفور». رفضت «الغزالى» دفع الغرامة وفضلت الحبس لمدة شهر لتوجيه رسالة إلى جهاز الأمن، بأنها لن تدفع مقابلاًمادياً ثمناً لحريتها الصحفية إلا أن زملاءها الصحفيين جمعوا أموالاً، وسددوا الغرامة لإنقاذ زميلتهم بعدما ضربت مثلاً فى الشجاعة الصحفية. عاودت سؤال «الغزالى» للمرة الثانية: «لماذا يوجد تعتيم إعلامى عما يحدث فى السودان؟، ولماذا تتجنب الصحف الكتابة عن الأحوال الاقتصادية السيئة وحال المجتمع السودانى المتعب وعن المظاهرات التى تخرج بشكل شبه أسبوعى تجوب المدن السودانية؟». أجابتنا «الغزالى» محاولة درء تهمة هذا التعتيم عن زملائها الصحفيين، قائلة: «أى صحفى يحاول نشر ما يحدث عن واقع فى السودان، يتعرض للملاحقة القضائية والتى تنتهى دائماً بالحبس أو الغرامة كما حدث معى ومع الكثير من الصحفيين أو الملاحقة بالمنع من الكتابة أو مصادرة الصحف فأنا حتى هذه اللحظة لم ينشر لى خبر واحد فى الصحيفة لأننى أسأت للأمن». سألتها: «ولماذا يمنعك رئيس التحرير من الكتابة فى الصحيفة، وأنت رئيسة القسم السياسى بها؟» ضحكت وهى تظن أننى أتهكم عليها، قائلة: «رئيس التحرير لا يمنعنى، ولكن الرقيب الصحفى هو الذى لديه القدرة على أن يمنعنى ويمنع رئيس التحرير نفسه من الكتابة». شعرت أننى أصبت بحالة من البلاهة ووجدت نفسى أرد عليها دون دراية منى: «ومين ده بقى عم الرقيب الصحفى اللى يقدر يمنع رئيس التحرير من الكتابة؟»، اندهشت «الغزالى» لدهشتى، وقالت: «الرقيب الصحفى هو شخص معين من قبل جهاز الأمن ويوجد دائماً فى الصحف وتعرض عليه البروفات قبل ذهابها للمطبعة ليقرر الموضوعات القابلة للنشر من عدمها وربما تجدينه يوقف المطبعة ليتأكد من الجرائد قبل طباعتها إذا ما كان يوجد بها ما يسىء إلى حكومة البشير أم لا». شعرت أن حالة البلاهة التى أصابتى منذ قليل بأنها «لا شىء» ووجدت نفسى أصرخ فى «الغزالى»: «انتوا إزاى تسمحوا بكده إزاى الأمن يقولكم تنشروا إيه فين نقابتكم فين نقيب الصحفيين السودانين إزاى صحفى يتمنع من الكتابة؟». بدأت «الغزالى» فى تهدئتى ثم اعتذرت لها عما بدر منى، وقلت لها: أعتذر لك فهذا شأن داخلى بكم ولم أقصد التدخل فيه، ولكننى تأملت نفسى لوهلة بأننى ممنوعة من الكتابة لوجود رقيب أمنى علىّ، ربت على كتفى وبدأت تسرد لى عن المضايقات، التى تتعرض لها هى وزملاؤها لدرجة جعلت الأمن يمنع قرابة ال21 صحفياً من الكتابة، بالإضافة إلى مصادرة عدد كبير من الصحف وحجب بعض المواقع الإلكترونية مثل «حركة العدل والمساواة» و«سودانيز أونلاين» و«الركوبة». هنا تذكرت ثانى أيامى فى السودان عندما عرفنى «الأسباط» على مجموعة من الصحفيين بعضهم فضل أخذ إجازة من صحيفته نظراً للضغوط التى يتعرضون لها فى الجريدة، والبعض الآخر أخذ إجازته عنوة، لأن جريدته أوقفت عن الصدور، فيما رددوا قصة صحفية تسمى «أمل هبانى» وكيف حولها الأمن إلى محاكمة ومنعها بعد ذلك عن الكتابة. سألت «الغزالى» عن الصحفية «أمل» فأخبرتنى أنها حولت إلى المحاكمة بسبب قضية «صفية» ورفضت أيضاً دفع الغرامة وفضلت الحبس رافضة شراء حريتها بالمال، ما جعل زملاءها من الصحفيين والشنطاء الحقوقيين والسياسيين، يدشنون مبادرة اسمها «جنيه أمل» يجرى خلالها النزول إلى الشوارع وإخبار الناس بقضيتها وبالفعل سددت الغرامة. قاطعتنا «نجلاء» باتصالها ب «أمل هبانى»، تخبرها بوجود فتاة مصرية سوف تهاتفها فيما بعد لمقابلتها، انتهت المكالمة وأعطتنى هاتفها ولكن القدر حال دون لقائنا، فقوات الأمن لحقت بى قبل أن أصل إلى «أمل»، دون أن عرف أن هذه الصحفية، التى لا أعرف عنها سوى اسمها فقط ستنضم إلى صفوف زملائى فى القاهرة وتشارك فى مسيرة للإفراج عنى من نقابة الصحفيين إلى وزارة الخارجية المصرية، وتقف إلى جوار والدتى وتشد من أزرها ثم تودعها متجهة إلى مطار القاهرة للحاق بطائرتها المتجهة إلى الخرطوم لتحط أولى خطواتها ليس فى بيتها أو جريدتها وإنما فى معتقلات البشير.