من منا لا يعرفه.. من منا لم يتربى على صوته.. من منا لم يتذوق حلاوة الإيمان أثناء تلاوته للقرآن الكريم، إنه القارئ الشيخ «أبو العينين شعيشع»، ابن مدينة بيلا، بمحافظة كفر الشيخ، هذا القارئ العالم الذى طاف الأرض بمشارقها ومغاربها، وبلغ صوته حدود الآفاق. لم أراه ولو مرّة واحدة فى حياتى، ولكن كل ما أعرفه عنه أنه من أبناء مدينتى «بيلا»، وأحد أعلامها الذين شرفوها ورفعوا رايتها عالياً فى جميع المحافل الدولية، ولذلك فقد بحثت وتعمقت فى البحث، لمعرفة شخصية هذا الرجل الذى يتحدث عنه الكثير من أبناء مدينتى. هذا القارئ العالم، صاحب «البدلة والطربوش»، الذى يملأ الجو فرح وسعادة وسرور وإيمان وهو يتلو ما تيسر من سورة «آل عمران» أو سورة «القمر»، أو غيرها من سور القرآن الكريم، وهو من الرعيل الأول للقراء فى مصر والعالم العربى والإسلامى، ولُقب ب«ملك الصبا»، وهو المقام الموسيقى الذى يُجسد حالة الشجن والحزن. ولد «شعيشع»، فى مدينة بيلا، التابعة لمحافظة كفر الشيخ، فى 12 أغسطس عام 1922م، وهو الابن الثانى عشر لأبيه، وإلتحق بكُتاب المدينة، وحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ «يوسف شتا»، رحمه الله، وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، وذاع صيته كقارئ للقرآن عام 1936م، وهو فى الرابعة عشر من عمره، وذلك بعد مشاركته بالتلاوة فى حفل أُقيم بمدينة المنصورة فى ذلك العام، والتى تبعدُ عن مدينة بيلا بحوالى 27 كيلو متراً فقط. دخل «شعيشع»، الإذاعة المصرية عام 1939م، متأثراً بالشيخ محمد رفعت، حيث استعانت به الإذاعة لإصلاح الأجزاء التالفة من تسجيلات «رفعت»، ولكنه اتخذ لنفسه أسلوباً فريداً فى التلاوة بدءاً من منتصف الأربعينيات، وكان أول قارئ مصرى يقرأ القرآن الكريم بالمسجد الأقصى المبارك. عام 1969م عُين «شعيشع» قارئاً لمسجد عمر مكرم بميدان التحرير، وسط القاهرة، ثم قارئاً لمسجد السيدة زينب عام 1992م، وناضل كثيراً فى بداية السبعينات من القرن الماضى لإنشاء نقابة القراء مع كبار قراء القرآن الكريم فى مصر حينذاك، وقد انتُخب نقيباً لنقابة القراء منذ عام 1988م، خلفاً للقارئ الراحل الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد، وظل نقيباً لها حتى وفاته. كما عُين عضواً بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وعميداً للمعهد الدولى لتحفيظ القرآن الكريم، وعضواً للجنة اختبار القراء بالإذاعة والتليفزيون، وعضواً باللجنة العليا للقرآن الكريم بوزارة الأوقاف، وعضواً بلجنة عمارة المسجد بالقاهرة. وحصل على وسام الرافدين من العراق، ووسام الأرز من لبنان، ووسام الاستحقاق من سوريا، وفلسطين، وأوسمة من تركيا، والصومال، وباكستان، والإمارات العربية المتحدة، وبعض الدول الإسلامية. أتذكر يوم وفاة الشيخ «أبو العينين»، وكأنها بالأمس القريب، وكُنا فى يوم الخميس الموافق 23 يونيو من عام 2011م، وقتها أعلنت بعض القنوات الفضائية، فضلاً عن إذاعة القرآن الكريم نبأ وفاة القارئ العالمى، وأعلنت ميكروفونات المساجد بمدينة بيلا أيضاً، عن وفاة «شعيشع»، وكان جميع أهالى المدينة فى حالة ترقب، للمشاركة فى جنازة القارئ الذى أمتع الجميع بصوته على مدار أكثر من 80 عاماً، ولكن لم يحالفهم الحظ للمشاركة فى جنازته، حيث دُفن فى المقابر المجاورة لكلية البنات بجامعة الأزهر بالقاهرة، والتى كان اشتراها لأسرته فى وقت سابق. ولا أنسى يوم أن صلينا عليه صلاة الغائب فى مسجد «أبو غنام»، أحد أكبر مساجد مدينة بيلا، والذى كانت منه بدايته مع رحلة التلاوة، وكان ذلك بعد صلاة الجمعة يوم 24 يونيو 2011م، وقتها تناول إمام المسجد الميكرفون، وقال بصوت يملؤه الحزن «صلاة الغائب على روح فضيلة القارئ الشيخ أبو العينين شعيشع»، وشعرت بقشعريرة فى جسدى، وتساءلت فى نفسى «أحقاً مات الشيخ شعيشع قبل أن أراه !!»، ولما لا فقد كنت أتمنى رؤيته، ولكن سبقت كلمة القدر، وحال الموت بينى وبين رؤية هذا الشيخ الجليل. كنت أشعر بالسعادة وأنا طفل صغير، حينما كنت استمع إلى القارئ الراحل وهو يتلو ما تيسر من القرآن الكريم عبر أثير موجات إذاعة القران الكريم، وكنت استمع إلى قصة حياته فى التلفزيون، وكانت حالة غريبة تنتابنى حينما يذكر أنه من مدينة «بيلا»، تلك المدينة التى أعشقها بكل تفاصيلها، وأشعر بالغربة فى غيرها. سمعت من أحد أقارب الشيخ «شعيشع»، أن القارئ الراحل كان يزور مدينة بيلا بصفة مستمرة، وكان لا يتأخر عن مساعدة أى شخص يلجأ إليه، وأنه حضر إلى المدينة قبل وفاته بأشهر قليلة، وزار أفراد عائلته، وأولاد أشقاؤه وشقيقاته ال11، المتواجدين جميعاً ببيلا، وكأنه كان يودعهم، الوداع الأخير. ويُحكى أن الشيخ «أبو العينين»، كان يقرأ فى أحد المآتم بمدينة بيلا، وكان يرافقه فى ذلك الوقت الكثير من مشاهير القراء فى مصر، وأثناء اندماجه وتلاوته لأيات عطرة من الذكر الحكيم، إذ تفاجأ بأحد المعزين يقوم بذكره بشئ لا يحبه وسط الحضور، تعبيراً منه عن شدة جمال صوته، وهو ما كان له بالغ الأثر فى نفس الشيخ الجليل، ومن بعدها رفض المشاركة فى أى مآتم تُقام بمسقط رأسه. هذا الشيخ الذى لم تكرمه محافظته، كما تفعل المحافظات الأخرى مع مشاهيرها، وقد تحدثت أكثر من مرة مع المستشار محمد عزت عجوة، محافظ كفر الشيخ السابق، بتكريم الشيخ «أبو العينين شعيشع»، فى عام 2014م، وبصراحة الرجل لم يعترض على ذلك، بل وجه بتسمية إحدى شوارع مدينة بيلا على اسم القارئ الراحل، ولكن للأسف لم يسعفه الوقت لمتابعة تعليماته، وذلك بسبب حركة المحافظين التى أطاحت به فى عام 2015م، وبات هذا الأمر من بعده نسياً منسياً! لا شك أن أبناء مدينة بيلا جميعاً يعشقون الشيخ «أبو العينين شعيشع»، وصوته النادر الذى أمتع به الجميع على مدار سنوات عديدة، ولكن على النقيض فبعض أبناء المدينة يستغربون من تجاهل الشيخ نفسه لمسقط رأسه، وعدم اهتمامه بإنشاء مجمع خيرى، أو مسجد كبير يحمل اسمه، كالذى أنشأه فى حى السيدة نفيسة بالقاهرة، ليكون قبلة للفقراء والمحتاجين من أبناء المدينة. أتمنى من أبناء الشيخ «شعيشع»، النظر فى هذا الأمر، وأن يستدركوا هذا الخطأ الذى ربما كان غير مقصوداً، وإنشاء مجمع خيرى فى مسقط رأس والدهم بمدينة «بيلا»، أو مسجد كبير يحمل اسمه، فالناس تنسى بسرعة البرق، ولكن الأماكن تظل خالدة بأسماء أصحابها. كما أناشد الدكتور إسماعيل عبد الحميد طه، محافظ كفر الشيخ، بتكريم القارئ الراحل، وإطلاق اسمه على شارع ومدرسة فى مسقط رأسه بمدينة بيلا، تكريماً لهذا العلم القرآنى الكبير، وتقديراً لرحلته القرآنية الحافلة بالعطاء، باعتباره آخر جيل العمالقة. وفى النهاية رحم الله الشيخ أبو العينين شعيشع، رحمةً واسعةً، فهو أسطورة لم ولن تتكرر، فى دولة التلاوة، ولن يستطيع أحد من القراء أن يسد الفجوة التى نتجت عن فقدان آخر حبة فى عقد المقرئين الرواد.