الثورة لحظة تنفجر فيها طاقات الغضب بفعل ضغوطات تراكمية من نظم استبدادية مفارقة لقواعد العلاقة التى تربط الحكام بالمحكومين، وتجربة مصر مع الثورة تمثل إضاءات عبر التاريخ تؤكد امتلاكنا لإرادتنا والتى لا يمكن لأعتى النظم أن تكسرها. هى لحظة تنشد التغيير وتصحيح المسار، ثم تعبر لتترك موقعها لاستقرار يترجم خارطة التغيير والتصويب بخطوات محددة على الأرض، خاصة عندما يملك الشعب الثائر زخما حضاريا بعمق التاريخ كحالتنا فى مصر. ولأنها ثورة فهى استثناء تفرضه عوامل عدة ربما تشبه التدخل الجراحى لإنقاذ حياة مريض، فهل يبقى فى غرفة العمليات أو تحت الملاحظة الحرجة (الإنعاش) دوماً؟ بحسب القواعد الطبية لكل مرحلة توقيتات محددة ينتقل بعدها إلى مرحلة النقاهة ومنها إلى حياته العادية يواصل عمله ويباشر مسئولياته. فى مصر كانت تجربتنا متفردة، فقد تحرك شبابنا فى 25 يناير 2011 فى مواجهة نظام استبدادى استدام طويلاً، واستطاع شبابنا أن يبهر العالم بشهادة زعماء العالم وهو يقدم نموذجاً تاريخياً لكسر الظلم الذى يملك السطوة والسلطة والقوة، بينما لا يملك الشباب سوى قوة الإرادة وصلابة التصميم وحب وطن لا تنازعه أرواحهم وحياتهم ودماؤهم، فكتب بهم أروع سطور الحرية، وعندما اختطفت ثورته من فصيل معادٍ للحضارة انتفض مجدداً ليسترد ثورته فى 30 يونيو 2013 ويصحح مسارها. من الطبيعى أن تواجه الثورة بمقاومة عاتية ممن سقط حلمهم بالسيطرة على مقاليد الوطن والارتداد به إلى عصوره الوسيطة المظلمة، حيث تقبع الحلقة العثمانية الاستبدادية (1517 - 1805) فى مسار خلافة تجاوزها التاريخ، وهى مقاومة مدعومة من قوى إقليمية يخايلها حلم ميراث الثقل والدور المصرى، ومن قوى دولية تسعى لإعادة ترسيم المنطقة وفق مصالحها، لتتحول إلى تجمعات عنصرية تعيد إنتاج نسق الدولة الدينية، وتتخلص القوى الدولية من صداع الجماعات الإرهابية التى تؤرقها، بإعادة تصديرها إلى المنطقة. ربما يفسر لنا هذا المحاولات المستميتة لعرقلة الانتقال من الثورة إلى الدولة، والمتمثلة فى ترويع الشارع والسعى لخلخلة مفاصل الدولة، وتفخيخ خارطة الطريق؛ الدستور والبرلمان والرئاسة، والتى حال تحققها تضع نقطة فى نهاية سطر النظامين السابقين، وتفجر طاقات البناء والتقدم لاسترداد مصر مكانتها وموقعها اللائقين بها بعد غياب طال. على أن الانتقال من الثورة إلى الدولة يتطلب تصفية ما علق بالوطن من سلبيات وانتهاكات جسيمة لحقوق الوطن والمواطن عبر منظومة إجراءات ترسم مسارا يهيئنا للدخول إلى عصر جديد تتحقق فيه مطالب الثورة، وعلى رأسها الحرية والكرامة والعدالة، عرفت بالعدالة الانتقالية، وقد عكف على دراستها ووضع رؤية قانونية مجتمعية لها المستشار عادل ماجد، نائب رئيس محكمة النقض، يعاونه مجموعة من رجال القانون والقضاء الثقاة، وقد ترجمها فى مجموعة أبحاث تناولت معايير تطبيق العدالة الانتقالية فى العالم العربى، ثم أفرد بحثاً تناول العدالة الانتقالية فى الشريعة الإسلامية، وهناك بحث ثالث يستعرض فيه هيئات العدالة الانتقالية، وينتهى إلى ترجمة الرؤية فى مشروع قانون متكامل للعدالة الانتقالية، التى تهدف إلى كشف انتهاكات حقوق الإنسان، حقيقتها وأسبابها ومداها والمسئولين عنها، والقضاء على كافة أشكال التمييز فى المجتمع، ثم تقصى جذور العنف والإرهاب، والقصاص العادل للضحايا وجبر الأضرار التى لحقت بهم وبذويهم، ومحاربة سياسة الإفلات من العقاب، وإصلاح مؤسسات الدولة، والدفع باتجاه تنمية ثقافة الحوار وإشاعة روح الصفح والتسامح والوفاق ونبذ العنف والانتقام وإرساء مقومات المصالحة والوحدة الوطنية، ومعالجة حالة الانقسام المجتمعى، وإرساء الثقة بين أطياف المجتمع وترسيخ السلم الاجتماعى، ثم الانتقال بالوطن إلى صميم مرحلة الديمقراطية.