بين شوارع الهرم يتجولون، وبملابس بسيطة يمرحون، مع أطفال المناطق العشوائية يتخللون، يشاركونهم فرحتهم فيتغنى الفريقان معاً على أنغام العندليب وأم كلثوم، هم ثلاثة أشخاص فى مهمة «مزيكاتية» جاؤوا من محافظة الدقهلية، يحملون على أعناقهم آلاتهم الموسيقية، أكبرهم سناً وأنحفهم هو عم «أحمد» -رجل سبعينى- يحمل طبلة «درابوكة» فى يده، أما أصغرهم سناً فهو «هانى» الشهير ب «سلطان» والذى يحمل طبلة «جلدية» ضخمة لها صوت رنان فى أفئدة المواطنين، أما الآلة النحاسية الصفراء فهى لا تفارق يد عم «مجدى شاهين» المُلقب ب «فاجنر» والذى اختار هذا الاسم تيمناً بالموسيقار «ريتشارد فاجنر» أحد الموسيقيين المفضلين لدى هتلر، كما يعد من أهم الموسيقيين فى العالم. «الموسيقى» وحدها جمعتهم، والألحان التى تمس القلوب ناشدتهم كى يعزفوها معاً، الله مُلهمُهم و«فاجنر» قائدهم يتذكر الرجل الستينى عندما اشترى آلة «التورمبون» قبل أربعين سنة، وقتها كان يعمل مدرساً للموسيقى بإحدى مدارس محافظة الدقهلية: «ميغركش منظرى أنا متعلم وواخد شهادات».. كان يقوم بتعليم التلاميذ كيفية تذوق الموسيقى لكن بعد أن أنهى خدمته فى التعليم فوجئ بمعاش يُقدر ب «300» جنيه، هو كل ما يملكه حتى يعول أسرة مكونة من 5 أشخاص منهم «بنتين على وش جواز».. دمعة من عين «فاجنر» تسقط على آلته النحاسية، وما هى إلا ثوان معدودة حتى يبكى كالأطفال عندما يتذكر مرارة الدنيا التى جفت حلقه. «تعالى تعالى تعالى تعالى.. حب العمر كله نخلصه حب الليله دى.. تعالى تعالى تعالى تعالى.. شوق العمر كله نعيشه م القلب الليله دى.. ما تخليش أشواقنا لبكره.. ما تخليش فرحتنا لبكره.. كأن أول ليله للحب.. الليله دى».. أغنية ل «أم كلثوم» يعزفها الثلاثة بآلاتهم.. عم «أحمد» يتذكر أن أول دقة على الطبلة كانت منذ 50 عاماً، كان يغوى حضور الأفراح، للاستماع إلى الموسيقى إلا أن تلك الطبلة الزجاجية ودقاتها الموسيقية رجرجت أوردة قلبه فشغف بها، أما عن قدومه إلى القاهرة فى شهر رمضان فيقول: «فى المنصورة إحنا ريفيين شويه وهناك معندهمش الوعى بأهمية الموسيقى.. وعشان كده بننزل مصر كل رمضان على أمل إن ربنا يكرمنا بقرش يساعدنا فى مصاريف عيالنا». هو أقصرهم طولا وأصغرهم سناً، يطلقون عليه «سلطان» واسمه الحقيقى «هانى»، تختلف الأسماء والعزف واحد، يقولها الرجل الثلاثينى وهو يُعلق طبلة كبيرة مصنوعة من الجلد على كتفيه، ويقبض بيديه على «عصا» خشبية مستديرة فى نهايتها، يحاول المحافظة على إيقاع اللحن عن طريق دقات معينة على «طبلته» تجعل صوتها رناناً.. «ياعباد الله وحدوا الرحمن.. رمضان كريم» جملة يقولها الثلاثة فى نفَس واحد بين كل لحن وآخر، منتظرين «عطف» الأحبة عليهم، وما إن يحصلوا على بضعة جنيهات حتى يمدحوا الرجل الكريم: «يا فلان عزك يدوم أنا متشكر على العموم انت القمر وحبايبك نجوم». «طول ما انت بتحب الصنعة لازم فى يوم هتحّن عليك»، يقولها «فاجنر» قائد فرقة «حسب الله» بعد اندثار تلك المهنة العريقة: «الآلة اللى معايا دى تاريخها بيعود إلى الممالك القديمة، أول مرة يلاقوها كانت فى الأقصر عام 1923 فى مقبرة توت عنخ آمون».. ثم يندب حظه العثر: «للأسف إحنا اتحولنا وبقينا أطلال».. ثم يتحدث عن «بيتهوفن وباخ» ليخلع عباءة لاعب الترومبون ويتقمص شخصية الملحنين الكبار ويقول وهو يحرك كلتا يديه: «بيتهوفن كان بيقولك إن الموسيقى هى توافق أصوات.. وهو ما تشعر به الناس كالارتياح فى إحساس المحبوب لحبيبته».