وقع الأمر الجلل وقُتل عثمان بن عفان على يد الثائرين، ولأول مرة نصادف فى كتب التاريخ الإسلامى مصطلح «الخوارج»، حيث قفز فى سياق وصف من ثاروا ضد عثمان. ظهر ذلك عند صاحب «البداية والنهاية»، حين ذكر: «ولما وقع هذا الأمر العظيم الفظيع الشنيع، أُسقط فى أيدى الناس، فأعظموه جدا وندم أكثر هؤلاء الجهلة الخوارج بما صنعوا». ومنذ تلك اللحظة أصبحت المعارضة السياسية فى الإسلام تعنى الخروج على الحاكم، وأصبح وصف «الخارجى» يُخلع على كل من يعارض حاكماً فى دنيا المسلمين فى الماضى والحاضر. ويدلل ما سبق على أن مصطلح «الخوارج» لم يرتبط فى ظهوره بواقعة التحكيم الشهيرة التى شهدت فعاليتها «دومة الجندل» خلال خلافة على بن أبى طالب، بل ظهر قبل ذلك بسنوات فى وصف من خرجوا على عثمان بن عفان رضى الله عنه. هؤلاء الرهط الذين أعملوا السيف فى الخليفة واحتلوا المدينة مدة خمسة أيام. بعد مقتل عثمان أصبح «الغافقى بن حرب» أمير المدينة، وانطلق ومن معه من الثائرين يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر. المصريون يلحون على علىٍّ وهو يهرب منهم، ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم لا نولّى أحدا من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد بن أبى وقاص، فقالوا: إنك من أهل الشورى! فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر، فأبى عليهم، فحاروا فى أمرهم، ثم قالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناس فى أمرهم ولم نسلَم، فرجعوا إلى علىٍّ، فألحوا عليه، وأخذ الأشتر بيده فبايعه، وبايعه الناس وأهل الكوفة، وكان أول من بايعه طلحة بيده الشلاء، فقال قائل: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم الزبير، وقال الزبير بعدها: إنما بايعت عليا والسيف على عنقى. امتلك على بن أبى طالب وحده شجاعة تحمل المسئولية فى هذا الموقف العصيب، رغم أن أقرب من حوله نهوه عن ذلك، ومنهم الحسن بن على رضى الله عنه، بسبب حالة الفوضى التى سادت المدينة. لقد كان من الضرورى أن يتم حسم الأمر واختيار من يخلف عثمان بن عفان. وكان من الطبيعى أن ينصرف تفكير الثوار إلى أهل الشورى الستة الذين اختير عثمان من بينهم، وقد بقى منهم أربعة بعد مقتل عثمان ووفاة عبدالرحمن بن عوف. وهم: على بن أبى طالب، وكان أهل مصر أميل إليه، والزبير بن العوام، ومال إليه أهل الكوفة، وطلحة بن عبيد الله، ومال إليه أهل البصرة، ولم يقبل أى من الثلاثة، بمن فيهم علىٌّ فى البداية، أن يلى الأمر فى هذه الظروف، وهو ما فعله أيضاً سعد بن أبى وقاص رابع أهل الشورى، وابن عمر: الحكم الذى ارتضاه عمر بن الخطاب رضى الله عنه حال الاختلاف بين أهل الشورى. بعدها عاد الثائرون من جديد إلى على بن أبى طالب، فألحوا عليه فى الطلب حتى قبل. اتخذ علىٌّ هذه الخطوة وهو يعلم التحديات الجسام التى سوف يواجهها، ويأتى على رأسها: التعامل مع ملف قتلة عثمان، وإزاحة الولاة الذين كانوا سبباً مباشراً فى الثورة على عثمان، وإعادة الانضباط إلى الواقع الإسلامى مرة أخرى بعد حالة الفوضى التى سيطرت عليه، وأدت إلى وضع المسلمين على طريق الفتنة. ويبقى أن أية مواجهة بين طرفين يمكن أن تقع بسهولة، ولكن من الصعوبة بمكان أن توقف تداعياتها، أو تتحكم فى مساراتها. وذلك هو ما حدث منذ اللحظة الأولى لخلافة على بن أبى طالب. فقد بدأت كل جيوب النقمة النائمة فى الاستيقاظ، وكان عصره عصراً من المعارضة الشرسة للحاكم، استُخدم فيها كل الحيل السياسية، وتشكلت من أجلها الأحلاف، وتحزبت الأحزاب، وتدفقت الجيوش والأجناد. فقد نظر كبار الصحابة مذهولين إلى أمر الثورة، وتحرك العوام، أو «الجهلة» كما يصفهم ابن كثير، لتغيير الخليفة الذى لم يستجب لطلباتهم، وفرْض خليفة يعبر عن أشواقهم فى التغيير، بعد سنين طويلة كان اختيار من يلى أمر المسلمين يتم من خلال اجتماعات الكبار فى الغرف المغلقة! لذلك لم يكن من المدهش أن تقف السيدة عائشة وهى تحرّض على الثأر من قتلة عثمان قائلة: «أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلماً بالأمس»، ولم يكن عجيباً أن يصف لها كل من طلحة والزبير أحوال المدينة بعد أن هرولا إليها فى مكة قائلين: «إنا تحملنا هُرَّاباً من المدينة من غوغاء وأعراب». فكيف يُسمح للغوغاء والدهماء مطاولة الكبار فى اختيار من يلى الأمر؟!