أغلب فترات تاريخ المسلمين كان يعتمد الحكام فيها على قهر الرأى ونادرا ما كنت تجد الإمام الذى يقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالخلفاء الراشدين فى إعلاء قيمة الرأى والحوار. من أجل ذلك لا تجد الكثير من الفقهاء المسلمين يتحدثون عن الرأى وقيمته وما فرضه الله من عقاب لمن يقهر الآخر بسب أو بسخرية أو استهزاء أو احتقار أو إقصاء أو غير ذلك.. وكان كل ما يشغل العلماء هو دراسة أحكام الوضوء أو الجنائز أو ديار الإسلام وديار الحرب وأحكام التجارة وأركان الصلاة وأحكام الوضوء إلى آخره من القواعد الفقهية. وفى عام 1928 بدأت دعوة الإمام حسن البنا، ولم يفرد الإمام حسن البنا المزيد من الشروح أو التوجيهات لمريديه بشأن إلزامهم باحترام الآخر.. حتى إن رسالة التعاليم اهتمت بأمر التمائم والرقى والبدعة الإضافية والتركية وزيارة القبور وغير ذلك، ولم يفرد فصلاً يبين قيمة احترام الآخر، هذا مع عدم الإنكار لما ورد من قيم عليا فى رسالة التعاليم مثل بيان الفكرة الإسلامية والتركيز على فهم السنة وغير ذلك. وقد عرّف الطاعة بأنها امتثال الأمر وإنفاذه تواً فى العسر واليسر، والمنشط والمكره، دون أن يكون لرأى الفرد قيمة فى هذه المرحلة، وكأنما خلقه الله ليسمع ويطيع أوامر قادته التى فُرِضت عليه، ثم قسم مراحل الدعوة إلى ثلاث مراحل؛ كان أولها التعريف بالفكرة، وثانيها التكوين، الذى قصد به ضم العناصر إلى الكتائب الإخوانية، ثم مرحلة التنفيذ الذى قال فيها ما نصه «ولا يكفل النجاح فى هذا الطور إلا كمال الطاعة». والمستخلص من هذا الكلام أن الإمام البنا افترض وجود معركة دائمة بين المسلم والمجتمع، وأن المسلم فى ظل هذه المعركة ملتزم بطاعة قادته إلى نهاية العمر. ثم استطرد «حسن البنا» رحمه الله فى «رسالة التعاليم» دون أن يذكر كلمة واحدة عن احترام الرأى أو قبول الآخر أو آلية اتخاذ القرار، وإنما عسكر ألفاظه كلها ضمن فهم الكتيبة التى ستقاتل والجندى الذى سيبتلى ويصمد. وذلك بقوله فيما نصه: - «وأريد بالثقة اطمئنان الجندى إلى القائد فى كفاءته وإخلاصه اطمئناناً عميقاً ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة»، ثم استدل بآية قرآنية استدلالاً فى غير موضعه حيث كان المولى عز وجل يربط بين الإيمان وبين طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ يقول فى محكم كتابه «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» (النساء 65). ومن هنا فقد توارثت الأجيال الإخوانية أصول هذا التقسيم الذى يلغى الحوار.. وكان من جراء ذلك أن أصبح الأخ الذى يناقش الأمور أو يعرضها على عقله غير مرغوب فيه بل ويتم استبعاده من مراكز تنفيذ القرار. وتم تصوير الأمر على أنه معركة دائمة بين الحق والباطل فكان ذلك المناخ هو المرتع الحقيقى والمعلل لفكرة السمع والطاعة. ثم جاء المؤمنون بفكر المرحوم سيد قطب وتم جمعهم فى قضية كاملة وسط مناخ ظالم فتأكد فى نفوسهم معنى الانفصال النفسى عن مجتمع لا يؤمن بما يؤمنون به من حق على حد زعمهم.. فأصبحوا يعانون من عقيدة الانفصال عن المجتمع والعزلة الشعورية واعتبار أنفسهم أهل الحق المشار إليهم فى الكتاب. وإذ يفرج الرئيس الراحل أنور السادات رحمه الله عن جميع أعضاء الإخوان المسلمين فكان «عمر التلمسانى» مؤسس الجماعة الثانى فلم يعتمد كل فكر حسن البنا وإنما انفتح على المجتمع وتكامل مع الجميع على قواعد الحركة الإصلاحية التى تتضامن مع كافة أطياف المجتمع فى نشر الإصلاح بين الناس.. كما اعتمد على شباب قادم إلى الجماعة ولم ينبت فيها أو يعتنق فكر الانفصال عن المجتمع.. فحدث قبول اجتماعى رائع لجماعة أصبحت لا تخاصم على أساس الرأى ولا تهجر بسبب الخلاف الاجتماعى أو الرؤى السياسية. إلا أنه وبوفاة الأستاذ عمر التلمسانى رحمه الله.. عاد إلى أرض مصر من الخارج أصحاب الفكر الواحد والرأى الواحد وسارعوا إلى الوجود تدريجياً.. وبنفس الفكرة القديمة كان حوارهم مع الآخر حواراً يفتقد القبول ويتسم بالتعالى والعناد.. وعادت مع وجودهم فكرة الرأى الواحد والفئة الواحدة التى تقاتل فى سبيل الله من وجهة نظرها حتى انتهى الأمر بالجماعة إلى انعدام الكفاءات وسيطرة الرأى الواحد واكتفاء الأفراد فى القاعدة الإخوانية بمناقشات وهمية يصدر بعدها الرأى من الفرد الواحد أو المجموعة الواحدة تحت عبارة فحواها «هذا الأمر من فوق» حتى أضاع ذلك الذى يجلس «فوق» كل الجماعة وبمن هو فى الرأس أو القاعدة. والآن أيها القارئ الكريم أصبحت تعلم سر السباب الذى يواجهك من كثير من الأبرياء والضحايا من المنتمين إلى الإخوان على صفحات التواصل الاجتماعى، وذلك إذا ما كان لك رأى آخر أو أصبحت تعلم سر ذهاب البعض من الإخوان إلى العنف أو أصبحت تعلم سر التقوقع الذى حدث فى أفراد الجماعة أو أصبحت تعلم سر العجرفة التى كان يتحدث بها البعض إثر توليهم الحكم أو أصبحت تعلم سر عدم قبولهم لى أو لك أو لغيرك.. إن السر فى ذلك هو منهج التربية واحتكار الحق الذى بدأه حسن البنا وسار على نهجه مجموعة على فكر المرحوم سيد قطب احتكرت القرار فى الجماعة واحتكرت الصواب فى المجتمع. وأصبحت تعلم أيضاً سر اعتماد الدكتور «مرسى» على أهل الثقة واستبعاده أهل الكفاءة وأصبحت تعلم سر استسلامة لإدارة الجماعة ومكتب الإرشاد فى أمور ربما لو أدارها هو بنفسه لنجح فيها، وأصبحت تعلم هذه الحالة من فقدان السند الشرعى لمعظم ما يتم من أعمال ومظاهرات.. حتى اللائحة الإخوانية التى ولدت فى منتصف التسعينات جاءت لتعطى الحق لشخص واحد وجهة واحدة فى سن التشريع والتنفيذ والقضاء.. مع وجود معيب لسياسة التعيين فى كل مراحل الهيكل الإدارى بصورة كانت تمكن هذا الفرد أو تلك الجهة من التحكم فى القرار.. ولكن إذا كان لكل داء دواء.. فدواء هذا الأمر هو ألا يضيق الصدر بإمكانية العلاج وأن نفعل كما يفعل الأطباء من علاج طبيعى لا يتم تبادل السباب فيه ولا تبادل الإنكار ولا تبادل الإقصاء.. وهذه ليست روشته مصالحة بالقطع.. وإنما هى روشته لعلاج رجال وشباب دق فيهم الإخلاص ولم تأت إليهم ساعة التدبر بعد.