يتبع هذا المقال سابقه فى فضح ادعاءات الخوارج الجدد من اليمين المتأسلم فى توظيف الإسلام العظيم لمآربهم السياسية بجهل وجهالة، مشوبين بغلظة وفظاظة، تجعل منهم جاهليين لا إسلاميين، اعتماداً على كتاب المستشار محمد سعيد العشماوى: الإسلام السياسى (دار سيناء للنشر، القاهرة، 1987 و1989). 5 - التأويل المُغرض للفظ الحكم فى القرآن إن لفظ «الحكم» يعنى فى لغة القرآن ومفرداتها ووقائعها، القضاء بين الناس، أو الفصل فى الخصومات، أو الرشد والحكمة: «وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» (النساء: 58)، «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» (الزمر: 3). أما السلطة السياسية بالمعنى الذى يُسمى فى العصر الحاضر الحكومة، فقد عبر عنها القرآن الكريم بلفظ «الأمر»، الذى جاء منه اسم «الأمير»، أى الشخص الذى يتولى السلطة، ولذلك لقَّب عمر بن الخطاب نفسه، ولُقِّب الخلفاء من بعده، بلقب أمير المؤمنين لا حاكمهم. وفى القرآن الكريم «وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ» (آل عمران: 159) «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» (الشورى: 38). وفى خُطب عمر بن الخطاب قال «ليعلم من وُلىّ هذا الأمر من بعدى.. أن هذا الأمر لا يصلح إلا بالشدة التى لا حدة فيها، وباللين الذى لا وهن فيه». وقال على بن أبى طالب إنه قد أعقب موت رسول الله «أن تنازع المؤمنون الأمر من بعده» (38 - 39). 6 - أغلوطة الحكم بما أنزل الله وتجاهل سياق تنزيل النص كثيراً ما يُردد الخوارج الجدد وأشياعهم الآيات التالية: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» و«وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» و«وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (المائدة: 44 - 47). يقصدون بذلك أن من يحكم -فى السياسة أو القضاء- بغير حكم الله فهو كافر ظالم فاسق، لا تحق له طاعة ولا يجب له ولاء، وأن حربه واجبة وجهاده لازم، واغتياله تنفيذ لحكم الله (41). وليس أدل من هذا الادعاء على مدى غوغائيتهم فى تحريف مقاصد الله واستعمال آياته فى غير ما أنزلت من أجله، «فالآيات المذكورة -والتى تُستعمل كشعار سياسى وهتاف حزبى- نزلت بسبب معين، عندما أخفى اليهود عن النبى حكم رجم الزانى، فى واقعة احتكموا إليه كى يقضى فيها، ولذلك فإن المنهاج السليم الذى يرى ضرورة تفسير الآيات على أساس أسباب التنزيل يقطع بأنها نزلت فى أهل الكتاب، وأنهم وحدهم هم المقصودون بها، وليس «المسلمين»، وعلى ذلك معظم الثقاة من مفسرى القرآن الكريم. فالطبرى مثلا يقول إنه روى عن رسول الله «أن هذه الآيات نزلت فى أهل الكتاب، وليس فى أهل الإسلام منها شىء» (41 - 42). إن الضوابط والحدود والقواعد التى لا بد من التزامها والتقيّد بها حتى لا ينحرف تفسير القرآن ولا يحيد فهم المسلم، هى -أولاً وآخراً- أن يرتبط تفسير الآيات القرآنية بأسباب تنزيلها. وقد أدرك الرعيل الأول من المسلمين ذلك، إذ روى أن عمر بن الخطاب خلا يوماً، فجعل يتساءل: كيف تختلف أمة الإسلام ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟ فقال له ابن عباس: لقد أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيمَ نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيمَ نزل، فيكون لهم فيه رأى، ثم يختلفون فى الآراء، ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه. لهذا حرص الصحابة والتابعون على معرفة أسباب التنزيل. فإذا غُمّ عليهم سبب تنزيل أى آية سكتوا عن تفسير ما لم يعرفوا له سبباً، وقالوا للسائل تفسيراً: اتق الله وعليك بالسداد، فقد ذهب الذين يعلمون فيمَ أنزل القرآن (42). إن أسلوب اقتطاع آية من أسباب التنزيل وانتزاع الآية أو بعض الآية من السياق الذى تنزلت فيه وجد تسويغاً له فى قاعدة فقهية تقول «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب». وهذه القاعدة من إنشاء فقهاء، وليست قاعدة شرعية وردت فى القرآن الكريم أو جاءت فى السنة النبوية (43). 7 - ضرورة تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع المتغيّر «إن الله العليم بأمور الناس، والخبير بشئون الحياة، قصد أن يترك التشريع -فى غير العموميات- للأمة تجتهد فيه بالرأى وتبتدع فيه بالعقل، تبعاً لتغيُّر أحوال الزمان وتبدل أرجاء المكان؛ ذلك لأن الأحكام التشريعية بطبيعتها إقليمية غير عالمية، مؤقتة غير مستمرة؛ فى حين أن الإسلام فى حقيقته دين عام شامل وشريعته إنسانية دائمة. لهذا اقتصد القرآن فى الأحكام التشريعية واقتصر على العام منها حتى ينأى بالإسلام أن يقع فيما وقعت فيه اليهودية، التى لم تخرج عن قبليتها إلا بعد أن طرحت الأحكام التشريعية وأبرزت الجانب الإنسانى، واضطرت -كيما تستمر- إلى أن يتولى الأحبار مهمة تطوير وتعديل وتنقيح الأحكام التشريعية، حتى أصبحت أحكامهم فى التلمود (التعاليم) هى الأساس. فى التطبيق دون الأحكام التى وردت فى التوراة» (45 - 46). والمعروف -فى التاريخ الإسلامى- أن الإمام الشافعى غيّر من فقهه عندما انتقل من العراق إلى مصر. فهذا فقه أدرك صاحبه أنه لا بد من أن يتغيّر لمجرد تغيُّر المكان، مع بقاء الزمان واحداً بين المكانين. فما الحال إذن مع تغير المكان وتبدل الزمان، ونشوء وقائع غير الوقائع وأحوال غير الأحوال؟! (46). 8 - خلط الشريعة المقدسة بالفقه البشرى إن الفقه الإسلامى، المسمى خطأ بالشريعة الإسلامية هو تشريع الناس للناس، أتحدث على مدار التاريخ الإسلامى كله، وهو بكل تأكيد ليس منزّهاً عن الغرض والهوى، وليس له من قدسية المصدرين المقدسين شىء قط. ومن ثم، فإن وضع الفقه البشرى بمنزلة القرآن وصحيح السنة المعصومة بالوحى، معصية تقارب الشرك بالله. لكن الخوارج الجدد لا يتورعون عن ارتكابها. على سبيل المثال، فى مناقشات تعديل الدستور أصر حزب النور ممثل السلفية المتشدّدة على تضمين الدستور النص على كون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، شاملة «أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة»، مما يعنى تحديداً النص على الأحكام الشرعية قطعية الثبوت والدلالة، والواردة فى كتاب البخارى (توفى 256 هجرية، 870 ميلادية). وبهذا يصر السلفيون المتشددون على أن يخضع المصريون لأحكام فقه بشرى توقف عند أكثر من ألف ومائة عام خلت، تقدّمت فيها البشرية تقدماً مذهلاً وتغيّرت أحوال المسلمين بما يقطع مع الظروف التى أحدث فيها هذا الفقه البشرى قطعاً باتاً. أين هؤلاء من الفاروق عمر بن الخطاب والإمام الشافعى؟ ألا يخجلون؟