ليس فى القرآن عقوبة دنيوية لشارب الخمر، وحين احتار عمر بن الخطاب فى تأديب أبوجندل شاربه استشار على بن أبى طالب، فأفتى بتنفيذ عقوبة رمى المحصنات عليه قياساً على أن شارب الخمر يهذى فيرمى المحصنات فأقامها عمر عليه. ولقد حاول أبوجندل الفرار من العقوبة استناداً للآية الكريمة «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا». ودلل على أحقيته فى شرب الخمر دون عقوبة بأنه من الذين اتقوا وأحسنوا، لكن ابن عباس قال: هذه الآية نزلت فى الذين شربوا الخمر قبل نزولها فلا عقوبة عليهم. وحين سأله عمر بن الخطاب كيف تختلف أمة الإسلام ودينها واحد وقبلتها واحدة فيرد ابن عباس: «لقد نزل القرآن وعلمنا فيما نزل، والقادمون بعدنا لا يدرون فيما نزل، فيختلفون، ثم يتقاتلون فيما اختلفوا فيه»، هذا هو الخلاف القائم منذ سنين بين عمومية اللفظ وخصوصيته «سبب التنزيل». والخوارج الذين خرجوا على الإمام على بن أبى طالب هم أول من استخدموا اللفظ على إطلاقه لخدمة مصالحهم وأهدافهم، على أن القرآن كلٌّ متكامل يفسر بعضه بعضاً، وإذا كان كذلك فلماذا نزلت الرسالة على الرسول صلى الله عليه وسلم فى ثلاثة وعشرين عاماً عمر الدعوة المحمدية، إلا إذا كانت تراعى تطور الأحداث، وما الناسخ والمنسوخ فى القرآن إلا دليل على ذلك، فيتغير الحكم تبعاً لتغير الأحداث، ويتغير من مرحلة تستدعى أمراً إلى مرحلة تستدعى أمراً آخر، وهو التدُّرج فى الأحكام، وإلا ظل الناسخ قائماً والمنسوخ قائماً أيضاً، فلم يكن يُعجز الله أن يُنزل القرآن على رسولنا دفعة واحدة، والخوارج أيضاً نزعوا الآيات من سياقها الخاص إلى سياقها العام ليجيزوا لأنفسهم الخروج عن الحاكم وقتاله. فإذا أخذنا اللفظ على إطلاقه ما رأيكم فى الآيتين الكريمتين الخاصتين بالرسول (صلى الله عليه وسلم) الآية الأولى «وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ»، والآية الثانية «يأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ»؟ فالأولى نزلت فى النبى حين أخفى زواجه من زينب بنت جحش خشية الناس فعاتبه ربه أنه أحق أن يخشاه، والآية الثانية حين حرّم على نفسه أكل العسل لموقف من زوجاته، فإذا أخذنا الآيتين على عموم اللفظ دون خصوصية السبب لكان الأمر مختلفاً فى الفهم. ولنضرب أمثلة لبعض الآيات وأسباب نزولها: 1- الآية.. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ».. سورة التغابن، سبب التنزيل: قال ابن عباس إن الرجل يُسلم فإذا أراد الهجرة منعه أولاده فمنهم من يرقّ لهم ويسمع كلامهم، وعدو هنا ليس معناها عدو قتال. 2- الآية.. «لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ».. سورة الممتحنة، سبب التنزيل: قال ابن الزبير عن أبيه: «قدمت قتيلة بنت عبدالعزى ابنة أسماء بنت أبى بكر ولم تكن قد أسلمت بهدايا إلى أمها فرفضت استقبالها وسألت أختها السيدة عائشة فسألت النبى (صلى الله عليه وسلم) فنزلت الآية فقبلتها». 3- الآية.. «هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ».. سورة الحشر، سبب التنزيل: أن النبى صالح يهود بنو النضير فى المدينة ألا يقاتلوه ولا يقاتلهم، فلما انتصر فى بدر قالوا هذا ما وجدنا وصفه فى التوراة، ولما انهزم المسلمون فى أحد نقضوا العهد فحاصرهم وصالحهم على الجلاء عن المدينة. 4- الآية.. «وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ».. سورة المائدة، سبب التنزيل: أن بعض أحبار اليهود ذهبوا ليفتنوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى دينه فأتوه وقالوا له: عرفت أننا أحبار اليهود وإن اتبعناك اتبعنا كثير من اليهود ولن يخالفونا، وإن بيننا وبين قوم حقوقاً فاقضِ لنا ونحن نؤمن بك. 5- الآية.. «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بالله».. سورة آل عمران، سبب التنزيل: أن النبى أمر المسلمين بالصلاة على النجاشى حين مات، واستغرب بعضهم هذا الأمر، ويقول ابن جرير وابن زيد: «نزلت فى مؤمنى أهل الكتاب». 6- الآية.. «وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً».. سورة آل عمران، سبب التنزيل: أن كعب بن الأشرف، وهو شاعر يهودى، كان يهجو الرسول حين وصل إلى المدينة مهاجراً، وكانت المدينة تعج باليهود والنصارى وغيرهم، وكان منهم من يؤذى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فنزلت الآية تدعو الرسول للصبر. مما سبق نرى أن الالتزام بحرفية النص يُخرج الآية من سياقها القرآنى ويسحبها من سبب نزولها فى ظرف تاريخى محدد ليستعملها استعمالاً عاماً ومطلقاً، وهى قاعدة فقهية وليست قاعدة شرعية. هذه القاعدة خاطئة فى تطبيقها لأنها تخرج الآية من سياقها الطبيعى وحكمها اللحظى والوقتى، ومن حالة خاصة إلى حالة عامة.. والله أعلم.