لا يلدغ المؤمن من جُحر مرتين، لكننا يبدو أننا اعتدنا على اللدغ حتى أدمنّاه فقبل أن تقوم ثورة 30/6 بأيام كان كثير من الطوائف والأحزاب والجماعات تعيش حالة رعب غير مسبوقة فقد بدا واضحاً أن الدكتور مرسى الرئيس السابق لن يترك مكاناً لأحد، وأنه أخرج كل بنادقه وأسلحته ليقتل الجميع فى وقت واحد وشعر الليبراليون باليأس لأنهم اكتشفوا أنهم رأس بلا قاعدة وأن كل ما نجحوا فيه طوال عمرهم هو التفكير والجدل وحديث النخب فى الغرف المكيفة وشعر الناصريون بأنهم يحاصَرون فلا يظهر منهم إلا الزعماء وهم يتحدثون، بينما يناضل شبابهم فى الشوارع بلا أمل. واستيقظ السلفيون من حلمهم الجميل حينما وجدوا أن الشركاء من الإخوان لا يقبلون الشراكة مع أحد وإنما يجيدون الاستخدام والتوظيف، وانزوى المسيحيون فى بيوتهم وأمامهم من لا يقبل إلا لغة الحرائق والدمار، والخلاصة أن الجميع قد انكمش فى الوقت الذى بدأ الدكتور مرسى فيه بإعلانات دستورية غاشمة وحالة هستيرية من تعيين الأهل والأقارب فى كل المناصب وبصورة لا ترعى فى الله إلاً ولا ذمة، وقد أعلن الحرب على الجميع فى آن واحد، فكانت طلقاته على القضاء وتحديه للإعلام وإصراره على حصار الدستورية العليا وإهدار الأحكام القضائية ومحاولة الهيمنة على الشرطة والسيطرة على القوات المسلحة، حتى بدأ الناس فى الشعور باليأس الكامل من المستقبل، فلم يكن مرسى يعلم فن الإدارة لدولة عريقة مثل مصر وأدارها على نهج ومصلحة الإخوان المسلمين، إلا أن مجموعة من الشباب تنتمى إلى كل الفصائل السياسية التى سبق ذكرها طوّرت من فكرتها وقامت بتقديم التضحية بالوقت والجهد فجمعوا ملايين التوقيعات واتصلوا بجميع وسائل الإعلام ليصنعوا ثورة أيدها الجيش لتقدم الثورة إلى كل الكسالى هدية العمر بأن خلصتهم من نموذج استبدادى كاد حتى أن يعصف باستقلال مصر، ولأن الذى يأتى بلا ثمن يذهب أيضاً بلا ثمن، فتبارى أصحاب المصالح -الذين أتت إليهم الثورة بلا ثمن- فى إضاعة ثورة 30/6 وخرج الذين كانوا يرتعدون خوفاً، خرجوا جميعاً من جحورهم، وليبدأوا معركة فيما بينهم -وهم أهل المنافع وأصحاب البطون- فهؤلاء يطالبون بحصانة، وأولئك يطالبون بنسبة، والهيئات القضائية تتصارع، والسلفيون يعترضون، والمسيحيون يحتجون رغم أن كل هؤلاء قد سجدوا لله شكراً أن أزاح عنهم همّاً كبيراً جثم على الصدور لمدة عام ثم أخذوا جميعاً يتجاذبون، وكلٌ يهدد بإغراق المركب والامتناع عن التصويت أو أن يقوم بدعوة الناس إلى التصويت على الدستور ب«لا» وكأنه يهدد الآخرين بورقة يملكها دون أن يشعر أنه يهدد نفسه، فإذا كان هذا الذى يهدد بالمقاطعة أو بالتصويت ب«لا» من السلفيين فإنه سيعود إلى المربع الأول الذى بدأ منه، وهو أن يكون مكملاً عددياً للإخوان المسلمين فى مجلس الشعب وأن يتم استغلال ذلك العدد، ليس فى التشريع الصالح ولا حتى فى إنقاذ الطبقة الكادحة مما تعانى منه وإنما يستخدم هذا الديكور العددى فى السيطرة والاستحواذ ثم ينطلق صوت من المسيحيين يهدد أيضاً بالتصويت ب«لا» وضعف ذاكرته يملى عليه أن ينسى أحداثاً لم تمر عليها إلا أسابيع، فالواقع المريض الذى فُرض على مصر منذ قيام ثورة 25 يناير يجعل من حرق الكنائس عبادة، ورغم أن رأس الكنيسة لا تطالب بهذه الكوتة الملعونة فإن هناك من المسيحيين من يعلنها حرباً على نفسه، أما المرأة المصرية فأمرها عجب فهى تنظر إلى البرلمان على أنه مجلس للآباء، وليس مجلساً للتشريع وتصر الجمعيات النسائية على أن تطالب بأربعين فى المائة من البرلمان لتخلق قضية من غير قضية وتجعل المجتمع يعيش فى صراع ومعارك حصادها الهشيم، ثم لا تنسى المرأة المصرية بجمعياتها الكثيرة بأن تهدد بأنها ستصوت ب«لا»، وهكذا يتحول البرلمان إلى «كوتات» صغيرة، كوتة للمرأة وكوتة للمسيحين وكوتة للمعاقين حتى يصبح البرلمان «برلمان الكوتة»، ويجدر الإشارة إلى أننا لا نقصد أولئك الذين سيقولون «لا» انطلاقاً من رأى واقتناع، إنما نقصد الذين سيقولون «لا» من أجل نظرة محدودة لمكاسب عابرة أو ابتزاز سياسى، وحينما أنتقد الذين يهددون، فأنا لا أعرف -أنا أو غيرى- إلى من يوجه التهديد، فهم لا يعرفون ما معنى أن يصوّت المصريون على الدستور ب«لا» من باب الكيد لا من باب الرأى الذى نقدّره، ونظراً لأن التهديد بذلك قد كثر دون أن يعى من يروّج هذا التهديد معناه ولا نتائجه، فأنا أنبههم إلى أن سقوط هذا الدستور أو حتى نجاحه بنسبة ضئيلة إنما يشير إلى رفض الشعب للمرحلة كلها ويشير إلى عجز النخبة التى تقود البلاد فى هذه المرحلة عن تقديم ما يمكن الالتفاف حوله والاحتفاء به. والحقيقة أن ما بذلته لجنة الخمسين حتى الآن إنما هو جهد رائع فى محصلته ونصوصه، وذلك رغم الصعوبات والمزايدات التى يتبارى فيها أصحاب المنافع وأن الذى يتأمل نصوصه التى لم تصبح نهائية بعد، يجد أن انتخاب المحافظين هو بادرة فريدة فى تاريخ مصر، وذلك طبعاً بدلاً من تعيينهم، وأن نصوص الحريات قد فاقت فى تصورى تلك النصوص المعمول بها فى فرنسا، ومع ذلك فكل شىء له نقائصه، ولكن أن نعانى من النقائص أو نصححها شىء والتهديد بإسقاط الدستور شىء آخر. ولا يصلح مثل هذا التهديد إلا من قليلى الوعى ولقد ظهر هذا الصراع الذى بدأ منذ انتخابات رئاسة لجنة الخمسين، أن الصراع مستمر وأن المركب يغوص على أيديهم فى الأعماق، وكما كفر الناس بالنظام الأسبق ثم بالنظام السابق يبدو أنهم أيضاً سيكفرون بهذا النظام ليعيش الجميع مأزق العودة للديكتاتورية، وكأننا شعب لا يستطيع أن يحكم نفسه ولا أن يتحكم فى غرائزه وشهواته، فلا يخفى علينا أن كثيراً ممن يملكون الحناجر الآن لم يكونوا شركاء فى ثورة يناير ولا ثورة يونيو ولا حتى ثورة أغسطس، إن كان هناك ثورة فى أغسطس، ليعود العبء مرة أخرى على كاهل القوات المسلحة لتحاول أن تحل لهم مشاكلهم، وتقدم لهم يد العون مرة أخرى لكى يكفوا عن التهديد بمقاطعة الانتخابات أو بالتصويت ب«لا». وإذا كانت القوات المسلحة فى الأمس القريب قد استجابت لنداء الشباب النقى وأنقذت مصر من مخطط البيع المجانى والسقوط فى يد الديكتاتورية الأبدية، فأنا أعتقد أن العبء فى المرة القادمة سيكون عليها غير يسير ولكنى أعتقد أيضاً أن العبء الأكبر الذى تتحمله هى أنها تحتفظ فى صدرها بسر الأسرار، وهو السر الذى سيعرفه أبناء المستقبل والذى سيجيب عن حقيقة ما قامت به القوات المسلحة. ذلك أنها لم تنقذ شعباً من حكم ديكتاتورى فحسب، وإنما هى أنقذت العالم العربى كله من الضياع، وحينما زار الوفد المصرى دولة «روسيا» كان فى استقبالهم الكثير من الخبراء والمفكرين، فخطب أحدهم خطبة قال فيها: «إن ثورة 30/6 لم تنقذ مصر فقط، وإنما أنقذت العالم العربى من الضياع»، فإذا كان هذا هو فهم الآخرين لثورة 30/6، فهل نعجز نحن عن فهمها أم نذهب إلى التهديد تارة بالمقاطعة وتارة بالتصويت ب«لا»، وكأن التعصب للرأى يؤدى إلى التضحية بشعب بأكمله، أما نصيحتى الأخيرة فهى أنه إذا كان من الممكن أن تنتشل المركب الذى غرق مرة، ولكن من الصعب أن تنتشل المركب الذى اعتاد على الغرق، ليس لأن العيب فى المركب، وإنما -مع الأسف- العيب هذه المرة فى الركاب.