وصف الفقيه التونسى الطاهر بن عاشور ما ذهب إليه الشيخ على عبدالرازق فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم» من أن الخلافة لم يأت عليها دليل فى القرآن والسنة، بأنه قول يشبه أفكار الخوارج؛ لأن الأدلة الشرعية غير منحصرة فى الكتاب والسنة، لكنها تمتد إلى الإجماع والتواتر وتظاهر الظواهر الشرعية، وهى «دلائل تربو على دلالة الكتاب والسنة إن كانت ظنية، وقد تواتر بعث النبى، صلى الله عليه وسلم، الأمراء والقضاة للبلاد النائية، وأمر بالسمع والطاعة، بل وأمر القرآن بذلك أيضا، فحصل من مجموع ذلك ما أوجب إجماع الأمة من عهد الصحابة، رضى الله عنهم، على إقامة الخليفة بعد وفاة الرسول»، وأن الاقتصار على القرآن والسنة لا يقيم الدين الإسلامى، وأن الإجماع أصل لا يمكن تجاوزه أو نكرانه: «والإجماع الذى ثبتت به مشروعية الإمامة العظمى هو الإجماع المنعقد عن دليل ضرورى من الشرع، وهو الذى يعبرون عنه تارة بالإجماع، وتارة بالمعلوم ضرورة»، وبذا تبقى آراء عبدالرازق، فى نظر ابن عاشور، مردودا عليها من التاريخ والحديث والفقه الإسلامى. ويذهب ابن عاشور إلى أن دفع عبدالرازق بأن الخلافة أقيمت بالقوة لا يعنى أنها ليست أصلا، ويقول هنا: «نعم لا ننكر أن من الأمراء من استعمل القوة لنوال الإمارة، إلا أن ذلك لا يقدح فى ماهية الخلافة؛ لأن العوارض التى تعرض للشىء فى بعض الأوقات لا تقضى على الأصل بالبطلان». ثم ينتهى ابن عاشور مدافعا دفاعا مستميتا عن الخلافة ليقر بأنها «عبارة عن حكومة الأمة الإسلامية، وهى ولاية ضرورة لحفظ الجامعة، وإقامة دولة الإسلام على أصلها.. والخلافة بهذا المعنى ليست لقبا يعطى لكبير، ولا طريقا روحانيا يوصل الروح إلى عالم الملكوت، أو يربط النفوس بالدين بأسلاك نورانية، بل هى خطة حقيقية تجمع الأمة الإسلامية تحت وقايتها، بتدبير مصالحها والذب عن حوزتها». وبعد ابن عاشور جاء تونسى آخر، هو الشيخ الخضر حسين، شيخ الجامع الأزهر، ليرد على عبدالرازق، فألف كتابا محكما فى هذا المضمار وسمه ب«نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم». تتبع فيه الأبواب التى أوردها عبدالرازق، بابا تلو الآخر، فكان يبدأ بتلخيص الباب، ثم يورد الفقرة التى تعبّر عن الفكرة موضوع النقد فيفندها، ثم قدح فى استخدام المؤلف للمصادر. وكان أوجه ما ذكره هو أن عبدالرازق يقتطع العبارات من سياقها، ويعيد توظيفها فى سياق جديد، يرمى إلى خدمة المعنى الذى قصده، وهو تفنيد مسألة أصالة «الخلافة» فى الإسلام، وقد أظهر الخضر الحسين فى كتابه القصير المحكم علما غزيرا وإحاطة متمكنة بأصول الفقه والتشريع، ومعرفة عميقة بالتاريخ الإسلامى. ( نكمل غدا).