ما أحوجنا فى هذه الأيام إلى استعادة المعركة الفكرية العميقة والراقية التى دارت حول كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق، حيث مر نحو ثمانية وثمانين عاماً على صدور أكثر الكتب ذيوعاً فى تاريخ العرب المحدثين والمعاصرين على حد سواء، وهو كتاب صغير الحجم، مركز الفكرة، مفعم بالشجاعة، ومثير للجدل، فتح الباب لكتب أخرى نبتت على ضفافه، إما رداً عليه قدحاً، أو مساندته مدحاً، وإما معالجة فكرته الجوهرية، ومقصده الذى لم يخطئه صاحبه، إنه كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق، الذى لا يدانيه شهرة فى العقود الأخيرة سوى كتابى «فى الشعر الجاهلى» لطه حسين، و«تحرير المرأة» لقاسم أمين. والفكرة الأساسية للكتاب تقول إن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام، وإنما هى مسألة دنيوية وسياسية أكثر منها دينية، وإن القرآن الكريم والحديث النبوى لم يوردا ما يبين، من قريب أو بعيد، كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه، وذلك لأن هذا التنظيم «اختراع بشرى» أو «اجتهاد» من قبل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، لجأوا إليه ليحافظوا على تماسك الجماعة المسلمة بعد وفاة النبى. ثم اعتبر عبدالرازق أن الخلافة «نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر فاسد» وراح يسرد من معطيات التاريخ ما يبرهن على هذا الرأى الصادم فى وقتها. وينقسم الكتاب إلى ثلاثة كتب فرعية، الأول عن «الخلافة والإسلام» والثانى بعنوان «الحكومة والإسلام»، أما الثالث فيدور حول «الخلافة والحكومة فى التاريخ». وبعد تعريفه الخلافة من الناحية اللغوية والتاريخية، ثم تناول كيفية تحولها إلى «ملك» على يد الأمويين، يؤكد عبدالرازق أن القرآن الكريم قد خلا من أى إشارة إلى الخلافة، ويقول: «لم نجد فيما مر بنا من مباحث العلماء، الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض، من حاول يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم. ولعمرى لو كان فى الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء فى التنويه والإشادة به، أو لو كان فى الكتاب الكريم ما يشبه أن يكون دليلاً على وجوب الإمامة لوجد من أنصار الخلافة المتكلفين، وأنهم لكثير، من يحاول أن يتخذ من شبه الدليل دليلاً. ولكن المنصفين من العلماء والمتكلفين منهم قد أعجزهم أن يجدوا فى كتاب الله تعالى حجة لرأيهم فانصرفوا عنه إلى ما رأيت من دعوى الإجماع تارة، ومن الالتجاء إلى أقيسة المنطق وأحكام العقل تارة أخرى». ويذهب عبدالرازق إلى أن السنّة أيضاً تخلو من حديث مباشر وواضح وقطعى عن الخلافة، فيقول: «ليس القرآن وحده هو الذى أهمل تلك الخلافة، ولم يتصدَّ لها، بل السنة كالقرآن أيضا، قد تركتها ولم تتعرض لها. يدلك على هذا أن العلماء لم يستطيعوا أن يستدلوا فى هذا الباب بشىء من الحديث، ولو وجدوا لهم فى الحديث دليلاً لقدموه فى الاستدلال على الإجماع، ولما قال صاحب المواقف إن هذا الإجماع مما لم ينقل له سند». (نكمل غداً)