عندما تصبح الفهلوة ذكاء، والنفاق قدرة على الاستمرار، والسكوت عن الحق من مظاهر الحكمة، والتسامح ضعفا، والحيل من علامات العبقرية، والضرب تحت الحزام مؤشرا على الفطنة، ونهب حقوق الغير شطارة، والكلام عن التطوير دون فعله تطويرا، والقدرة على الكلام قدرة على الفعل! هل هذه أخلاقيات للتقدم؟ أم ثقافة العجز والاستهلاك التى تنقلب فيها صفات السلوك وتختلط أسماء الأفعال وموازين التمييز؟ عندما تكون المناصب مبنية على حسابات شخصية، ولا عبرة بالإنجاز ولا بالتاريخ ولا بالقدرة على تحقيق نتائج على أرض الواقع..! هل تنتظر أن تتقدم مصر؟ عندما لا تكون الكفاءة هى المعيار، وتكون الشللية هى القوة النافذة، والوساطة هى السحر الفعال، والرشوة هى الطريق الوحيد للحصول على الحقوق..! هل يمكن أن نلحق بمصاف الدول المتقدمة؟ وعندما تجد شخصا عاجزا كسولا جاهلا، يريد أن تساويه بالقادر المنتج العالم، وعندما تجد صوت الغوغاء يرتفع فوق صوت العقلاء، ولغة الخطابة فوق لغة الإنجاز..! هل يمكن أن يتحول شعب بهذه الحالة المتردية إلى دولة منتجة؟ طبعا لا.. حتى لو أحضروا له مدربا أجنبيا أو حكومة مستوردة! لكن ما الحل؟ الحل أن يتغير الناس.. فأول خطوة ينبغى اتخاذها فى مجتمع متخلف يريد أن ينهض، هى «الجهاد الأكبر»، وبلغة العصر إعمال «أخلاقيات التقدم» وحمايتها عن طريق تطبيق القانون بصرامة، ورفض الاستثناءات؛ لأن من سمات أخلاق التخلف الاستثناءات المتوالية التى تتحول بمرور الوقت إلى قواعد؛ فتتحول الواسطة إلى قاعدة، والكسل إلى حق، والرشوة إلى إكرامية، والتشدد مع البعض إلى إعمال للقانون، والتساهل مع البعض الآخر إلى إعمال لروح القانون..! إن إيجاد «بيئة تنافسية عادلة» هو الأساس الذى لا مفر منه لكى تسود أخلاق التقدم.. لماذا؟ لأن البيئة التنافسية العادلة الخاضعة لمنظومة قانونية فعالة سوف تسهم فى إيجاد الشخص الصالح، والأمانة، والشعور بالواجب، وبذل الذات والجهد، والوطنية. ويستلزم وجود بيئة تنافسية عادلة وجود تقاليد وقواعد وآليات ثابتة للتنافس لا يمكن الالتفاف حولها أو القفز عليها. ومن أهم هذه القواعد «الإنصاف»، وهو غير «المساواة الميكانيكية» التى تلغى الفروق الفردية فى المواهب وفى الجهد والعطاء والتميز الفردى، ولا تلتفت إلى التفاوت بين البشر فى العلم والعمل والإنجاز. فالإنصاف هو أن يسود مبدأ «لكل حسب عمله»، لا حسب مكانته، ولا طبقته، ولا علاقاته، ولا غير ذلك من أسباب الوصول اللامشروعة فى المجتمعات المتخلفة، وإلا لن نستطيع إيقاف قطار الانهيار الذى أوشك أن يصل بنا إلى حافة الجبل. إن «الإنصاف» يقتضى التفرقة والتمييز وإيقاف صوت الغوغاء الكسالى الذين يطالبون بالمساواة المطلقة فى كل شىء! فكيف أسوى فى الأجور بين الذين يعملون والذين لا يعملون، وبين الكفاءات ومحدودى الموهبة، وبين المتفانين والمهملين؟ وكيف أقلل الفجوة بين الإدارة بالفكر الاستراتيجى والإدارة بفكر محلات عصير القصب؟! ويقتضى الإنصاف سيادة الشفافية، فالشفافية مطلب أساسى للعدالة؛ إذ لا بد من بيئة مفتوحة، لا مجال فيها للتعتيم والمداراة، وهى كفيلة فى كثير من الأحيان بتحقيق العدل فى المنافسة، فأية مخالفة تكون مكشوفة، وبالتالى يصبح من الصعب أن تقع؛ وإذا وقعت يصبح من السهل مواجهتها ب«قانون عادل».. قانون يقدم الضمانات الدنيوية التى تكفل تطابق الفضيلة والسعادة، أى أن يكون الفضلاء سعداء، والأشرار تعساء. ولا يقتصر القانون على الجنايات والجنح، بل يشمل كذلك المخالفات، على أن يتسع القانون فى تقديم جزاءات فى مجال المخالفات، بحيث تشمل هذه المخالفات كل الأفعال الصغيرة التى تستهين بها الأمم المتخلفة، مثل إلقاء المخلفات، وعدم مراعاة الشروط الصحية، والمخالفات المرورية، والكسل الوظيفى، وتعطيل مصالح الناس.. إلخ. ولا تنتهى المسألة عند وجود القانون، بل لا بد من تطبيقه، وتطبيقه لا يكون إلا بالمسئولين عن هذا التطبيق، ومن ثم لا بد أن يكونوا بدورهم أخلاقيين، لكن كيف يمكن أن يكونوا كذلك وقد تحول بعضهم إلى رجال أعمال، وبعضهم الآخر باع القضية يأساً؟! والسؤال الأهم: كيف نحميهم من الإغراء عن طريق كفالة قدرتهم على الاستغناء؟ ولا تقف مسئولية تطبيق القانون على المختصين، بل هناك دور جوهرى للناس؛ إذ لا بد من تبادل الرقابة الذاتية بين الناس ضد الفساد الداخلى، والإبلاغ عن أية مخالفات، وممارسة النقد الذاتى الموضوعى بأنواعه. فلن يمارس الناس أخلاقيات التقدم بدون بيئة تنافسية عادلة محمية بالقانون، وبدون أن يجد كل فرد ثمرة عمله، وأن يشعر كل مواطن بأن أى عمل إيجابى -ولو كان صغيرا- سوف يسهم فى عملية التنمية والتقدم. وبطبيعة الحال، لا بد أن يواكب هذا كله روح جديدة تشيع فيها ثقافة التنمية والإنتاج، وتعلو فى أجوائها مفاهيم عمل الخير الإيجابى، أعنى الذى ينعكس على عملية التنمية والبناء والتعمير والإنتاج. ولن يمارس الناس أخلاقيات التقدم؛ دون أن يتخلى المجتمع عن حالة الجحود والنكران، والتحلى بثقافة الإنصاف وتقدير وإجلال العمل والإنجاز؛ فالله خلقنا لكى نعمل ونعمر الأرض، ولكن أكثر الناس لا يعلمون! والسؤال: كيف يمكن تغيير ثقافة المواطن حتى يشعر أن أى عمل إيجابى -ولو كان صغيرا- سوف يساهم فى عملية التنمية والتقدم؟ كيف يمكن شيوع ثقافة يعلو فيها قول النبى (صلى الله عليه وسلم): «إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها». (رواه البزار، ورجاله أثبات ثقات). فهل ثقافة المصريين اليوم لها علاقة بهذه الفلسفة النبوية العظيمة؟ وهل تدينهم له أية علاقة بدين محمد (صلى الله عليه وسلم) الذى يقوم من ألفه إلى يائه على عقيدة تعمير الأرض والنهوض بالذات والوطن، والجهاد الأكبر فيه هو إصلاح النفس قبل إصلاح الآخرين وفرض الوصاية عليهم؟!