في مقال عنوانه "الربط بين الواقعية والمثالية في الشرق الأوسط" بصحيفة واشنطن بوست تناول هنري كيسنجر عميد الدبلوماسية الأمريكية ووزير خارجيتها الأسبق في الفترة ما بين 1973-1977، طريقة تعامل الإدارة الأمريكية مع الوضع في كل من مصر وسوريا، والتحدي الذي تواجهه بين الانحياز للتحول الديموقراطي والحفاظ على المصالح العليا للولايات المتحدة في المنطقة، وخلص إلى ضرورة التوفيق بين الرؤيتين "الواقعية" والمثالية"، ودفع الطامحين إلى السلطة في مصر والشرق الأوسط إلى إدراك أن درجة توافقهم مع المصالح والقيم الأمريكية هي الفيصل في تقديم المساعدت لهم.. ولأهمية المقال نقدمه لقارئ "الوطن" كاملا. يُحتفل كثيرا بالربيع العربي من خلال ذكر أسماء المستبدين الذين تمت الإطاحة بهم، لكن الثورات تُقيم -في النهاية- بما أسسته وليس بما دمرته.. لقد أشادت الولاياتالمتحدة بمظاهرات ميدان التحرير، وألقت اللوم على نفسها لتعاونها الطويل مع رئيس غير ديمقراطي، ودعت حسني مبارك للتنحي، وبمجرد أن تنحى لم يجلس الثوار الحقيقيون في مكانه، بل وصل إسلاميون -ليس لهم سجل في الديمقراطية بل تاريخ من العداء للغرب- إلى الرئاسة بعد أن كانوا قد تعهدوا بعدم السعي إليها، وعارضتهم المؤسسة العسكرية التي كانت تدعم النظام السابق، وتم تهميش العنصر العلماني الديمقراطي. فما هو المخرج من هذه النقطة؟ على عكس الحكمة التقليدية، لم تحدد الولاياتالمتحدة البنية الداخلية لمصر... لآلاف السنين كان للملوك والحكام المستبدين العسكريين نفوذ في مصر، وفي السبعينات تخلى الرئيس أنور السادات عن التحالف مع السوفييت الذي كان قد صاغه نظام عبد الناصر قبل عشرين عاما، ووقع السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل، ولعبت الولاياتالمتحدة دور الوسيط، وساعدت هذه الأحداث إلى التحول نحو الحرب الباردة، وجسدت تقييما صارما من جميع الأطراف لعلاقة القوى الناجمة عن الحرب العربية الإسرائيلية (حرب أكتوبر) عام 1973، واغتيل السادات عام 1981 على يد متطرفين إسلاميين، واستخدم خليفته مبارك استمرارهم في نهج "الإرهاب" كمبرر لفرض قانون الطوارئ لفترة طويلة. وكانت مصر وحكومتها أحد حقائق الحياة الدولية؛ ورأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة (الديموقراطية منها والجمهورية) أنها في ظل الحرب الباردة والاضطرابات التي تلوح في الأفق في المنطقة يجب أن تتعامل مع هذا البلد العربي الرئيسي الذي أبدى استعداده لتحمل المخاطر من أجل السلام، وكما أكدت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في مؤتمر صحفي في القاهرة مؤخرا "عملنا مع الحكومة المصرية القائمة في ذلك الوقت". فهل كان لدى الولاياتالمتحدة خيار التدخل مباشرة في الحياة السياسية في المنطقة على المستوى المحلي عند نقطة محددة وهي تواجه المغامرات السوفييتية في البداية ثم النتائج المترتبة على تفكك الاتحاد السوفياتي لاحقا؟، الحقيقة أن تقدير رؤساء الولاياتالمتحدة من نيكسون حتى كلينتون لذلك التدخل كان يشير إلى أن مخاطره تفوق مكاسبه، لكن إدارة جورج دبليو بوش حثت الرئيس مبارك على السماح بانتخابات تعددية، وانتقدت قمعه للمعارضة، واتخذ الرئيس أوباما اتجاها مماثلا في بداية إدارته، والسياسة الخارجية الأمريكية ليست السبب في جميع أوجه القصور في الإدارات الداخلية للدول الأخرى وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وليست هي الحل أيضا. والحقيقة أن الثورة في مصر أبعد ما تكون عن نهايتها الآن، في ظل دستور لم يكتب بعد، ومؤسسات منقسمة بسبب الخلاف بين الإخوان والجيش، ورأي عام منقسم حول رؤى مختلفة لمستقبل بلادهم، وسياسة الولاياتالمتحدة ممزقة أيضا بين الضرورات المتنافسة، فجماعة الإخوان صعدت عبر عملية انتخابية تدعو إليها القيم الديمقراطية، في حين أن الجيش هو الأقرب لمفهوم الولاياتالمتحدة للأمن الدولي والأفضل لتحقيق نتائجه من التعددية السياسية الداخلية، وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد أخطأت في فترة الحرب الباردة من خلال تركيزها المفرط على عنصر الأمن، فإنها تواجه الآن خطر الجمع بين التعددية الطائفية والديمقراطية. وفي ظل هذا الزلزال تزادا حدة النقاش حول محددات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، الواقعيون ينظرون للأحداث من زاوية استراتيجية الأمن؛ والمثاليون يعتبرونها فرصة لتعزيز الديمقراطية، لكن الخيار ليس بين الاستراتيجية والمثالية، وإذا لم نتمكن من الجمع بين الاثنين لن نحقق أيا منهما. في هذا السياق علينا أن نجيب على الأسئلة التالية: هل نقف بمعزل عن تطور العمليات الداخلية، أم نحاول إعادة تشكيلها؟ هل ندعم أحد المتنافسين أم نركز على الدفاع عن الإجراءات الانتخابية (مع العلم أن هذا قد يؤدي إلى نتائج سيئة بالنسبة لنا من الناحية الاستراتيجية)؟ هل يمكن أن يجنبنا التزامنا بالديمقراطية الاستبداد الطائفي القائم على الاستفتاءات الموجهة وحكم الحزب الواحد؟" إن دعم المجلس العسكري الذي يتألف في معظمه من المقربين من مبارك يتعارض مع الديمقراطية، وافتراض وجود قيم مشتركة مع تيار إسلامي -يدعو منذ أجيال لمنهج معاد للغرب في المنطقة بأسرها- مجرد وهم يعتمد على الأمل وليس على خبرات سابقة، وقد أثبتت الأنظمة العسكرية أنها هشة، أما المنظمات الأيديولوجية فقد استخدمت المؤسسات الديمقراطية لتحقيق أهداف غير ديمقراطية ولتحدي النظام الإقليمي، وبالتالي يجب أن نركز على الاعتدال الحقيقي الذي يبديه خصومنا الأيديولوجيون، دون أن نتردد في التأكيد على مصالحنا الأمنية، وفي هذا المسار الضيق، يجب أن تتحرك سياسة الولاياتالمتحدة دون أن تخدع نفسها بوهم أن اللاعبين الرئيسيين في انتظار تعليماتنا". وفي سوريا تلوح في الأفق معضلات مشابهة، (فعلى مستوى معين تتناقض سوريا مع الرأي القائل بأن الولاياتالمتحدة يمكن أن تحقق نتائج أكثر ديمقراطية في مصر من خلال التهديد بوقف علاقات التعاون، فهذا السلوك فيما يتعلق بسوريا لم يؤد إلى اعتدال الحكم الاستبداي لعائلة الأسد). في النقاشات العامة في أمريكا توصف الأزمة في سوريا عادة باعتبارها نضالا من أجل الديمقراطية، يفترض أن يتوج بإزاحة بشار الأسد، لكن ذلك لا يتناسب مع جوهر المشكلة، فالقضية الحقيقية هي صراع من أجل الهيمنة بين العلويين مدعومين من أقليات سورية أخرى وبين الأغلبية السنية. والأسد نفسه زعيم غير مقبول معروف عنه التردد، وبعد أن استقر في لندن كطبيب عيون - وهي مهنة لا تجتذب عادة المتعطشين للسلطة – اضطر للانخراط في السياسة السورية بعد وفاة شقيقه الأكبر الذي كان يُعد لخلافة والده، ولذلك يتوقع أن يستمر الصراع في سوريا – وأن يزداد حدة – ما بين القبول بحكم الأسد والتخلص منه نهائيا، وفي حالة ذهاب الأسد ستشعر الأقلية العلوية المهيمنة على الجيش السوري، بأنها مضطرة للصراع من أجل البقاء على قيد الحياة". وإقامة بديل سياسي لنظام الأسد قد يكون أكثر تعقيدا من المسار في مصر أو غيرها من دول الربيع العربي، لأن الأطراف المتنافسة أكثر عددا وأشد اختلافا فيما بينها، وبدون قيادة خلاقة تبني نظاما سياسيا شاملا - وهو احتمال غير وارد في أوساط من يحملون السلاح – ستتمزق سوريا إلى كيانات عرقية وطائفية، مما يزيد من مخاطر انتشار الانقسام العرقي في الدول المجاورة. والتزام الأطراف المتحاربة في سوريا بالقيم الديمقراطية والتوافق مع المصالح الغربية لم يختبر على الإطلاق، وقد دخل تنظيم القاعدة في الصراع، ومن جانب آخر هناك من يطالب الولاياتالمتحدة بالتدخل، وفي مثل هذه الظروف لا يواجه واضعو السياسات الامريكية اختيارا بين نتائج "الواقعية" و"المثالية"، بل اختيارا بين نتائج عيوب المتنافسين، اختيارا بين اعتبارات الاستراتيجية واعتبارت الحكم، ونحن في وضع حرج في سوريا لأن لدينا مصلحة استراتيجية في كسر التحالف بين عائلة الأسد وإيران، وأمامنا هدف أخلاقي يتمثل في إنقاذ الأرواح البشرية، لكننا غير قادرين على تحقيقه من خلال مجلس الأمن. منذ بدأت الانتفاضات العربية سقطت أربعة من أنظمة الحكم، وتم اختبار عدة أنظمة أخرى بشكل جاد، وقد رأت الولاياتالمتحدة أنها مضطرة للاستجابة والتدخل أحيانا في هذه الدراما، لكنها لم تجب حتى الآن على الأسئلة الأساسية عن اتجاهها: هل لدينا رؤية لمعادلة استراتيجية في المنطقة تخدم مصالحنا العالمية؟ أو لدينا رؤية عن الوسائل التي تحقق هذه الأهداف؟ وكيف يمكننا التعامل مع المساعدات الاقتصادية التي قد تكون أفضل وسيلة -إن لم تكن الوحيدة- في التأثير على تطورات الأحداث؟ الولاياتالمتحدة تستطيع –ويجب- أن تساعد في الانتقال نحو مجتمعات قائمة على التسامح المدني والحقوق الفردية، لكنها لا تستطيع القيام بذلك من خلال قولبة كل صراع من الناحية الأيديولوجية، ويجب أن توضع جهودنا في إطار المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، بما يساعد على تحديد مدى وطبيعة دورنا، فالتقدم نحو نظام عالمي يتنبى الحكم القائم على المشاركة والتعاون الدولي يتطلب العمل من خلال مراحل وسيطة، ويتطلب أيضا أن يدرك الطامحون إلى نظام جديد في الشرق الأوسط أن مساهمتنا معهم تتوقف على درجة توافقهم مع مصالحنا وقيمنا، ولهذا ينبغي التوفيق بين "الواقعية" و"المثالية" اللتين نعتبرهما الآن متناقضتين.