«النبات يشعر ويحس مثل البشر يا أبوالريحان، وأعواد الحطب التى تراها جافة وذابلة ربما كانت يوماً جذعاً لشجرة وارفة الظلال».. كيف يمكن لهذه الأعواد الباردة الجافة الذابلة أن تكون مصدراً للدفء والنماء؟ سؤال كان يتردد دائماً فى عقل الصبى الصغير «أبوالريحان» وهو يجمع أعواد الحطب من البستان. وفى يوم من الأيام وبينما أبوالريحان يتأمل الزهور يجرى وراء الفراشات ويغنى مع الطيور فى البستان نظر إلى السماء فوجد الشمس قاربت على الرحيل وهو لم يجمع بعدُ الحطب فجرى مسرعاً نحو كومة من الحطب حملها بكلتا يديه وفجأة انزلقت قدمه. فوقع على الأرض وتناثرت أعواد الحطب التى جمعها. بكى أبوالريحان، لكنه وجد يداً تمسح دموعه وتساعده فى جمع الحطب، ابتسم أبوالريحان واطمأن فقد حل الظلام ولن يكون وحده فى البستان وعرف الرجل بنفسه قائلاً: أنا أبوالريحان من بيرون. قال الرجل: رأيتك هنا من قبل يا أبوالريحان وفى كل مرة كنت أتأملك وأراك تجمع الريحان والحطب من البستان واليوم سمعتك وأنت تسأل كيف لهذا الحطب أن يكون مصدرا للحياة.. بلهفة قال أبوالريحان: وهل عندك يا سيدى إجابة لهذا السؤال؟ ابتسم الرجل وقال النبات يشعر ويحس مثل البشر يا أبوالريحان وأعواد الحطب التى تراها جافة وذابلة ربما كانت يوماً جذعاً لشجرة وارفة الظلال غنية بالثمار فى يوم من الأيام، وبمرور الوقت ذبلت أوراقها وتكسرت أغصانها ولم يبق منها إلا هذه الأعواد التى نشعلها فتمنحنا أعظم اكتشاف عرفه الإنسان وهو النار.. فبالنار نطهو طعامنا ومن حرارتها نشعر بالدفء يسرى فى أجسادنا.. فالشجر مثل البشر تمضى حياته، لكنه يترك لنا الذكرى التى يجب أن نحافظ عليها لتعيش فى نفوسنا على الدوام. انبهر أبوالريحان بكلام الرجل وسأله: كيف عرفت كل هذا يا سيدى؟ ربت الرجل على كتفه قائلاً: لقد قضيت سنوات عمرى كلها بين الطبيعة أدرس مختلف أنواع الزهور والنباتات لأصنع منها العقاقير والأدوية التى تشفى الناس من الأمراض، سافرت كثيراً بحثاً عن العلم وتركت بلدى اليونان. قال أبوالريحان بلهفة: أنت إذن يا سيدى عالم نبات. رد العالم: ما رأيك أن تعمل معى يا أبوالريحان تجمع الزهور من البستان؟ قال أبوالريحان: أتمنى يا سيدى ولكن من سيجمع الحطب لوالدتى لتبيعه فى السوق؟ فالحطب هو مصدر رزقنا الوحيد. ابتسم العالم وقال: سأدفع لك أجراً يكفيك أنت ووالدتك ويريحك من جمع الحطب وستكون من اليوم تلميذى الذى يلاحظ ويسأل ولن أبخل عليك بما تعلمته فأنت مثلى تحب الطبيعة واسمك هو اسم أحد أبنائها نبات الريحان وإن شاء الله ستكون عالماً يشار له بالبنان.. ومرت ثلاث سنوات عمل فيها أبوالريحان مع أستاذه وفى أحد الأيام قال له: آن لى أن أعود لبلدى اليونان يا أبوالريحان وأنا على يقين من أنك بإذن الله ستكون عالما يعرفه الناس بلقب البيرونى.. غداً سأقدمك لعالم الفلك والرياضيات الأمير «أبوالنصر بن عراق»، وبالفعل رحب الأمير أبوالنصر بأبوالريحان وعلمه أسرار ما يعرفه من علوم الفلك والرياضيات حتى بلغ تسعة عشر عاما وصار متميزاً فى علم الفلك والنبات. رحل البيرونى من بلدته بيرون إلى بخارى ليتردد على مكتبتها العامرة بشتى أنواع الكتب، وهناك كان على موعد مع الطبيب الفيلسوف ابن سينا وأصبح العالمان الشابان صديقين ولم يبخل كل منهما بعلمه على الآخر وكم من المناظرات والمحاورات العلمية كانت بينهما. العلم هو وحدة متصلة الحلقات يؤدى بعضها إلى بعض ومن تفوق فى علم وتعمق فيه يمكنه أن يتفوق فى بقية العلوم. كان هذا هو ما يؤمن به البيرونى، ولهذا برع فى علم النبات والفلك والطبيعة، وكان أول من اكتشف أن سرعة الضوء أكبر من سرعة الصوت، كما حدد الفرق بدقة بالغة بين درجة حرارة الماء الساخن والبارد وشرح أسباب تمدد المعادن بالحرارة وانكماشها بالبرودة. كما وصف الجواهر والمعادن وطرق استخراجها من المناجم.. كل هذا وضحه فى كتابه «الجماهر فى معرفة الجواهر». وضع البيرونى طريقة رياضية لتحديد الجهات الأربع الأصلية: الشرق والغرب والشمال والجنوب، كما شرح كسوف الشمس وخسوف القمر، أثبت البيرونى كروية الأرض وشرح كيفية دورانها حول الشمس ودوران القمر حول الأرض فسبق علماء الفلك الغربيين بستة قرون ووضح كل هذا فى كتابه «القانون فى علوم الهيئة والنجوم». وفى مجال الصيدلة تحدث البيرونى عن خصائص النبات والعقاقير وكيفية صناعة العقاقير منها. عاش البيرونى حياة علمية حافلة فى أكثر من وطن وكان يؤمن بأن العلم طائر حر ينتقل فى الفضاء لا وطن له ولا جنسية؛ لذلك فإن الكثير من الدول اتخذت البيرونى ابناً لها وأنشئت الجامعات باسمه فى موسكو، أما الهند التى زارها وكتب فيها كتابه الشهير «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة للعقل أو مرزولة» فقد أصدرت عنه مجلداً كبيراً. ولد البيرونى عام 362 هجرية وبعد حياة حافلة نبغ فيها فى الرياضة والفلك والصيدلة واللغات رحل البيرونى وعمره 75 عاما. رحل البيرونى وترك علمه الغزير تتناقله الأجيال وكانت البداية أعواد الحطب الجافة التى أشعلت نار المعرفة فى حياته ونور العلم والإيمان فى قلبه.