صوت التلفاز ينفذ من حجرتها فى ساعات الصباح الأولى، السكون يسيطر على بيتها، الشمس تنشر أشعتها داخل حجرتها المطلة على الشارع، تتحس طريقها إلى الحمام الملاصق لحجرة نومها، تقف أمام المرآة، تعرف يدها اليمنى طريقها لمفتاح الكهرباء، ليظهر على سطح المرآة وجه سيدة فى عقدها الثامن، وشعرها الأسود الذى تسللت إليه شعيرات بيضاء، وحاجبها الرفيع، وجلبابها الأسود الذى لا يفارق جسدها بعد مقتل ابنها «وسيم» قبل أربع سنوات. اعتادت «شاهندة مقلد» أن تستيقظ فى هذه الساعة المبكرة كل يوم، تفتح التلفاز إن لم تكن قد نسيت إطفاءه قبل النوم لتتابع عن كثب كل ما هو جديد فى مصر التى يندر أن يمر يوم بلا أحداث، تجر قدميها إلى المطبخ، لتحضر لنفسها وجبة الإفطار، فهى لا تأكل -عملا بنصيحة الأطباء- إلا «عيش.. جبنة قريش.. كوباية شاى» لظروف مرضها بالسكر، تجلس على أريكتها فى الصالة الممتدة، تقلب فى قنوات التلفاز، صحتها لا تقوى على ما تبثه قناة الجزيرة، لذا فهى تجد ضالتها فى «أون تى فى» وقناة النيل للأخبار والفضائية المصرية، التى ترى أنها أصبحت موضوعية أكثر من ذى قبل. تزدان الصور الفوتوغرافية فى جنبات صالة بيتها الطويلة، تتجاور صورة والدها إلى صورة زوجها، فالاثنان لهما من الذكريات ما لا يحصى بساعات من الحكى، فوالدها الفنان المثقف الذى يجيد العزف على أوتار العود، وتطرب هى لصوته، ويجعلها تذوب عشقا لأغانى أم كلثوم، هو ضابط البوليس، الذى لم تعرف حياته الاستقرار، دائم التنقل، يرتحل بين البلاد والوجوه، كان فى أسوان يوم أن أنجبت زوجته مولودتها البكر «شاهندة»، فى نفس اليوم الذى ولدت فيه الأميرة فريال، ليطلق عليها لقب «الأميرة شاهندة»، طلب منهم بشوق وحنين أن يرسلوا له صورة ابنته الأولى عبر البريد، كانت فى جسد هزيل على سرير جدها القديم كبير الحجم، ليعلق والدها ساخرا على هذه الصورة: «بقه أنا أقولكم ابعتولى صورة بنتى، تبعتولى صورة للسرير». صورة كبيرة ب«برواز خشبى» للرئيس المصرى فى حقبة الخمسينات والستينات «جمال عبدالناصر»، لا تنسى «شاهندة» عندما نزل ناصر إلى قريتها «كمشيش» بمحافظة المنوفية بصحبة المناضل «جيفارا» فى العام الخامس من ستينات القرن الماضى، كانت حينها فى عقدها الثانى، سلمت على جيفارا الذى حياها على نضالها ضد الإقطاع، لتطلب من ناصر أن يرفع العزل الذى فرض على القرية، فوعدها الرئيس بذلك، لينشد الفلاحون وهى على رأسهم: «سنين عزلونا عنك يا جمال.. حرب مسعورة شنوها علينا.. بالدم غسلنا ذل الإقطاع». صور أولادها «ناجى.. وسيم.. بسمة»، صغارا وكبارا، صورتها على غلاف جريدة المصور وهى تحتضن صغارها بعد مقتل زوجها صلاح حسين على يد الإقطاعيين، الذين ضاقت صدورهم من دفاعه عن قضايا الفلاحين، ابنها الأكبر ناجى، كان يكره السياسة، ولا يطيق لها مجلسا، لكنه عندما اعتقل فى السبعينات للضغط على والدته التى لا يستطيع البوليس الوصول لمكانها، خرج ناجى من المعتقل يطرب لسماع حديث السياسة، واعتقل ابنها وسيم أثناء زيارة بيجن، وبعدما خافت عليهما قررت أن تجعلهما يسافران إلى روسيا للدراسة، ذات يوم أمسكت بهاتفه المحمول لتخبر ابنها وسيم، أنها وجدت له عملا مناسبا كمراسل فى روسيا، لكنه لم يرد على تليفونها، وعندما اتصلت بزوجته، اكتشفت أنه متغيب عن البيت منذ أيام، تقول «بقيت زى المجنونة». تحكى والدموع تذرف من عينيها السوداوين: لم يمر الوقت طويلا، حتى سافرت للاطمئنان على ابنها فى روسيا، لم تترك مكانا إلا وطرقته، كانت تدخل المشرحة قلقة تنظر فى صور القتلى، لكنها تخرج فرحة لأنها لا تجد صورة ابنها، وبعد ثلاثة شهور، اتضح أن الجثمان عثر عليه بعد 3 أيام، مقطع الأوصال، فى حقيبة بها جرائد باللغة العربية، وتم دفنه فى روسيا دون علم أحد من أهله، تستكمل الحكى وهى مستمرة فى بكائها: يا حبيبى يا ابنى.. كان ذلك فى 20 يونيو 2008، ليعود أخوه ناجى للقاهرة بعد 30 عاما من العمل والاستقرار فى روسيا، تقول شاهندة «بعد وسيم ما مات مش هقلع السواد لحد ما أموت». الساعة تقترب من الرابعة عصرا، تدخل ابنتها بسمة، هى خريجة ألسن قسم روسى، وتعمل بوزارة الإعلام، تسأل والدتها هل «أحضر لك الغداء يا ماما»، توافق والدتها، ما زالت تقلب فى أرشيف الصحف الذى تحتفظ به فى دولاب كبير، لم تمر دقائق، حتى تحضر لوالدتها «الفتة مع قطعة من اللحم» مع البطاطس والبصل المشوى، تقول ابنتها «أنا عمرى 46 سنة، وقاعدة معاها طول الفترة دى، باستثناء سنوات قضيتها فى روسيا، والطبيب نصحها بأكلات خفيفة وفاكهة وخضار»، تقول والدتها ضاحكة: «الغداء زى أكل الفلاحين، خضار ولحمة». «جعلتنى أقف على رجلى».. هكذا تصف شاهندة مقلد ثورة 25 يناير، التى قام بها الشعب وانضم إليها الجيش، كما ترى، تضيف بحماس «كنت فى الميدان أغلب الأيام، كنت أحس بجمال وعظمة مصر فى الميدان، كنت فرحانة وحاسة إنى لازم أبقى جنبهم، كنت أجرى وسط الناس لما يحصل هجوم على الميدان، أقولهم: ما تخافوش». دائما ما كانت تهتف عندما يجرى المتظاهرون فى الميدان «الجدع جدع والجبان جبان»، وكانت ترفض فكرة الصعود على المنصات للحديث «دا مش من حقى»، كانت من أوائل من هتف «الشعب والجيش إيد واحدة»، تضيف وهى تستحضر أيام الميدان «كنت حريصة على الشعار ده، لكن القيادة ارتكبت أخطاء فيما بعد»، وكانت تحث الناس على الهتاف فى الميدان: «الشعب يريد إسقاط النظام»، كانت تبرر لهم: «السادات مات وظل نظامه موجود». مما يذكره الشاعر زين العابدين فؤاد عن شاهندة مقلد، أثناء وجودها فى الميدان «كانت موجودة فى الميدان منذ أيام الثورة الأولى»، وما زال يحتفظ بمقطع فيديو التقطه لها أثناء لحظة إعلان عمر سليمان تخلى مبارك عن حكم مصر «صورت لحظة الفرح على وجهها عندما سمعت بخبر التنحى»، فهى دائمة القول: «الميدان هو الجمعية العمومية للشعب المصرى». يصفها زين العابدين فؤاد بأنها «نموذج عظيم ومتكرر، مرتبطة بحركة الفلاحين، مرت بظروف شخصية صعبة وقاسية جدا، استشهد الزوج، ومن بعده أخوها الطيار المقاتل فى حرب 1973، واستشهد الابن وسيم فى روسيا»، يتابع زين العابدين «مش بالضرورة تتفق أو تختلف مع رؤيتها السياسية، لكنها مناضلة وأنت تدعم رأيها»، يستزيد «عمرنا متقارب، واحنا صحاب من زمان». كان بجوارها عندما قتل زوجها «قدمت لها التعازى يوم استشهاد زوجها، وعندما وصل الجثمان إلى كمشيش كنت موجود»، واعتاد زين العابدين فؤاد أن يذهب كل عام فى الاحتفالية التى تقام فى كمشيش «كنت أنشد القصائد، وفى الذكرى ال 46 الأخيرة، ذهبت لكمشيش بصحبة محمد زكى مراد ودكتور أحمد حرارة». رغم سنه الطاعن، وعدم قدرته الصحية على الحديث، لكنه عندما علم أنه سيتكلم عن شاهندة مقلد، تفتحت أساريره، يقول أحمد فؤاد نجم «شرف كبير لى أنى أتكلم عن شاهندة»، يتابع نجم كلامه مستحضرا إحدى الذكريات فى أوائل السبعينات «السادات طلعت فى دماغه يلم شوية نسوان فى سجن القناطر للسيدات، فى قضية تنظيم سرى لقلب نظام الحكم، أنا كنت فى سجن الرجال، بعتلهم مع الزبال قصيدة كتبتها لشاهندة: عطشان يا صبايا للحب والحنين.. والشط لا نور ولا نسمة ولا ناى ولا عود ياسمين.. يا شاهندة وخبرينا يا م الصوت الحزين.. يا م العيون جناين يرمح فيها الهجين.. إيش لون سجن القناطر إيش لون السجانين.. إيش لون الصحبة معاكى نّوار البساتين.. كلك محابيس يا بلدنا وهدومك زنازين.. وغيطانك الوسايع ضاقت ع الفلاحين.. والدخان فى المداخن لون هم الشغالين.. يا بنات النيل يا سبايا ف حبال الجلادين ما بقاش فى زمانكم عنتر لكن فيه الملايين.. فارس محسوب الخطوة يتحرك بالقوانين لحظة ما تحين الساعة يركب ضهر التنين.. ويحطم الحواجز ويفك المساجين»، ينهى نجم قصيدته وهو يقول «شاهندة مناضلة.. تستاهل ديوان شعر مش قصيدة واحدة».