لا يكاد يمر يوم دون أن تشهد مصر أزمة إعلامية جديدة أو ممارسة حادة فى قناة فضائية أو صحيفة، ولعل تكرار تلك الأزمات وتكريسها أحياناً لا يعود فقط إلى توافر مواردها وتجددها، ولكنه يعود أيضاً إلى أن معالجتها تتم بصورة قاصرة ومجتزأة؛ مرة من خلال القضاء، ومرة أخرى عبر تدخلات السلطة التنفيذية الخشنة، ومرة ثالثة عبر تركها تتفاعل حتى تضمر وتخمد نارها، أو تبقى مشتعلة تحت الرماد، تنتظر الفرصة لتعبر عن نفسها فى صدام آخر. والواقع أن الإشارات كلها تفيد أن تلك الأزمات مرشحة دوماً للتكرار، طالما لم يتم التوافق على حلول جديدة تخلق فرصاً أفضل للتعاطى مع الأخطاء التى ترد عبر الممارسة الإعلامية، وتحفظ حرية الإعلام، وتراعى المصلحة العامة، وتصون حقوق الأفراد والجماعات المنخرطة فى قصص الإعلام ومعالجاته فى آن واحد. لقد استطاعت بعض الدول الغربية المتقدمة تطوير وسائل متكاملة يمكنها أن تقلل من الأزمات الإعلامية إلى أقصى درجة ممكنة، وأن تحد من حجم المشكلات التى يصدّرها المشهد الإعلامى إلى القضاء والحكومة والمجال العام، وتغل يد السلطة التنفيذية عن التحكم فى الأداء الإعلامى وتقييده وتهديد استقلاله فى الوقت ذاته. ومن تلك الوسائل ما يتعلق بتطوير قدرات التنظيم الذاتى لدى وسائل الإعلام نفسها؛ إذ تعمد بعض وسائل الإعلام الغربية إلى إصدار «أدلة إرشادات تحريرية»، تحوى القواعد الأخلاقية والمهنية الواجب اتباعها عند التصدى لتغطية الموضوعات والقصص، بحيث تقدم إجابات مفصلة عن أسئلة يمكن أن تطرأ على الإعلامى الذى ينخرط فى تغطية قصة ما، وهى إجابات تتوخى المعايير القياسية، ويساعد الالتزام بها على التقليل من التجاوزات التى تخلق الأزمات إلى أقصى درجة ممكنة. وتنشئ بعض وسائل الإعلام المرموقة «وحدات سياسة تحريرية»، تضم إعلاميين مخضرمين وعناصر خبرة قانونية وإدارية، لإعطاء المشورة للمحررين فيما يتعلق بالجوانب الأخلاقية والقانونية عند التصدى لتغطية قصص ملتبسة وشائكة، قد يؤدى التعاطى غير المهنى معها إلى توليد أزمات ومشكلات، وبما يضمن توفير المشورة اللازمة لضبط الأداء وإبقائه ضمن حيز المعايير المهنية. وإضافة إلى ذلك، فإن بعض وسائل الإعلام تحرص على تطوير وحدات تدريب دائمة داخل الوسيلة الإعلامية نفسها، لرفع مهارات الإعلاميين وإكسابهم المعرفة اللازمة للتصدى لعملهم. لكن تعزيز قدرة وسائل الإعلام على مقاربة القضايا بأقل قدر ممكن من الأخطاء المهنية والأخلاقية والقانونية، عبر بناء قدرات الوسائل والعاملين بها من الإعلاميين، لن يكون قادراً وحده على الحد من النزاعات والأزمات التى تتولد بسبب الإعلام، أو تتفاقم فيه، إلى درجة مرضية؛ إذ تظل فرص الخطأ والتجاوز واردة فى كل الأحيان. لذلك، فإن دولاً غربية عدة طورت نمطاً مؤسسياً يؤطر الممارسة الإعلامية، يسمى ب«الهيئات الضابطة»، وهى مؤسسات تنشأ فى صيغة مستقلة عادة، وتحظى بتمويل لا يمس نزاهتها ولا قدرتها على الاستدامة بقدر الإمكان، وتقوم بأدوار متابعة الأداء الإعلامى، وتلقى الشكاوى من المتضررين من الممارسات الإعلامية، وبحثها، والوصول إلى تقييمات وقرارات فى شأن مسئولية وسائل الإعلام والإعلاميين المعنيين بصددها، كما تمتلك صلاحيات لتوقيع اللوم، ونشر الأخطاء، وإلزام الوسيلة الملامة بالتصحيح والاعتذار ونشر الردود أو بثها، ويمتلك بعضها سلطة توقيع عقوبة إيقاف بعض الإعلاميين والبرامج عن العمل بصورة مؤقتة، ومن تلك المؤسسات مكتب الاتصالات بالمملكة المتحدة Office for Communications Of COM، وهو هيئة مستقلة عن الحكومة، لكنها مسئولة أمام «مجلس العموم»، وتختص بتلقى شكاوى الجمهور والأطراف المتضررة من خدمات الاتصالات، وعلى رأسها خدمات الإذاعة والتليفزيون، ويمتلك المكتب سلطة توقيع عقوبات معنوية ومالية، كما يمكنه إيقاف بعض البرامج والإعلاميين عن العمل بصورة مؤقتة، ويتم تمويله من رسوم تدفعها وسائل الإعلام المسموعة والمرئية وبعض المنح الحكومية، وهناك أيضاً لجنة شكاوى الصحافة بالدولة نفسها Press Complaints Commission PCC، وهى هيئة مستقلة، تلتزم بالبت فى شكاوى الجمهور من ممارسات الصحافة المطبوعة، وتنتهج عدداً من الأساليب لتوجيه النقد واللوم للوسائل التى تتم إدانتها، وتحقق اللجنة فى آلاف الشكاوى سنوياً، وتقول إنها خففت الضغط بدرجة كبيرة عن القضاء بمنعها وصول النزاعات المتصلة بالأداء الصحفى إليه. وهناك أيضاً اللجنة الفيدرالية للاتصالات FCC Federal Communications Commission، وهى وكالة أمريكية مستقلة، تختص بمتابعة أداء وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، ويقودها خمسة أمناء، يتم تعيينهم من قبل الرئيس، لكن مجلس الشيوخ يجب أن يقر تعيينهم، على ألا ينتمى أكثر من ثلاثة منهم لحزب واحد، لضمان عدم الانحياز. يبدو أن مصر باتت فى طريقها لامتلاك مثل تلك الهيئات، خصوصاً بعدما أعلن المتحدث باسم لجنة الخمسين، الأستاذ محمد سلماوى عن تضمين النص الدستورى الجديد مواد لإنشاء ثلاث هيئات مستقلة جديدة تشرف على صناعة الإعلام. إن وجود مثل تلك المواد فى دستور 2013 سيكون خطوة مهمة نحو إنشاء إطار لتنظيم أداء الإعلام المصرى، بشكل يضمن له حريته ويحد من انفلاتاته، لكن تلك الخطوة لن تحقق الغاية منها إلا بعد إصدار قوانين تضمن استقلالية تلك الهيئات وفاعليتها فى آن واحد.