تمضى مشبعاً بحب التطلع إلى القاهرة الإسلامية، يقف من ورائك الجامع الأزهر، يهالك مبنى بالغ الضخامة بديع الرونق، له قبة ومئذنة، تحاول الدخول إليه فتجد كل أبوابه موصدة، عند الباب الرئيسى ثمة قصاب علق ذبائحه الطازجة ليقدمها ل«المجاورين»، وعند الباب الثانى تجد تاجر فاكهة نثر حبات البطيخ على أعتابه صارخاً «على السكينة يا شليَن»، وإلى جوار الباب الثالث وقف شاب ملتحٍ يبيع كتبا دينية، مستجديا المارة بالتبرك بأصحاب الأضرحة المباركة وشراء الكتب وتقديم «النفحة». لا تنطفئ جذوة الدهشة عند دخول هذا المبنى، الذى عُرف باسم مجموعة «محمد بك أبوالدهب»، ويضم مسجدا وتكية وسبيلا وحوض دواب وقبة، ما أن تسمع هذا حتى تنتشى ممنياً النفس بمشاهد أثرية نادرة، لكن أحلامك تتبدد بمجرد الدخول عبر الباب الخلفى المقابل لقبة قصر الغورى، حيث يمتلئ الشارع ببائعى الخضار، فيما تزكم رائحة السمك الأنوف، ومحل لبيع العصائر ساخنة يزعم بائعها أنها مثلجة، تصعد الدرج فتجد على يسارك حوضا للدواب، تغلق عينيك، مستعيدا القاهرة فى العصور الغابرة، إذ كانت الدواب تحتل هذا المكان، لترطب هى جوفها. تنظر إلى الحوض، الذى غطته كتل من الأتربة، وبقايا أكياس وزجاجات فارغة. ترفع يديك عن «الدرابزين» الخشبى، لما علق بيديك من تراب، وتمر من الباب ذى القطع الدائرية البارزة، لتصبح أخيراً فى حيز مجموعة محمد بك أبوالدهب. حين تصير إلى داخل المجموعة، الراجعة للعهد العثمانى، تقابل على يسارك سبيل المياه، المطل على سوق الخضار، والمنقسم إلى صهاريج كانت تنضح بسر الحياة، أمام الواقفين على شبابيك من سبيكة البرونز مصنوعة على هيئة زخارف نباتية. تخرج من السبيل، تنقلك الأرضية غير النظيفة إلى بهو مستطيل، به أعمدة خشبية، عليها تستند التكية، التى أنشأها أبوالدهب لإقامة الصوفية، إذ تنتشر غرف عديدة، أشبه بفندق يتكون من دورين.. تسير فى تؤدة، خشية أن يعلق بملابسك المزيد من الأتربة التى تكسو المكان، وتصل فى النهاية إلى «الميضة» المغطاة بتعريشة خشبية، ومن بعدها سلم خشبى صغير يدفعك إلى مسجد الرجل، الذى نثر الذهب على الجبال حين أعتقه على بك الكبير، فلقبه الناس بأبوالدهب. باحة المسجد مستطيلة، تمتلئ بأعمدة خشبية، تقف كشواهد القبور أمام باب المسجد المغلق، الذى لا يفتح إلا فى الزيارات الخاصة، محدثاً صريراً يصم الآذان، باب رغم كل شىء به لمحة هندسية وزخارف مرسومة بعناية اندثرت فى الصراع مع الإهمال. تدخل إلى المسجد، تقف فى وسطه، لو تنحنحت فى صوت خافت، لرددت جوانب المسجد الصوت هادراً فى عمق، لفرط الفضاء الشامل، إذ لا يحتوى سوى على منبر خشبى لونه ترابى، ودكة المبلِّغ، المعلقة أمام المنبر، وكان فى القديم، يجلس فيها رجل يطلق عليه المبلِّغ، يردد ما يقوله الإمام فى الصلاة، ليسمعه جمهور الحاضرين، حين كان البشر يبعثون بالروح فى المكان، قبل أن تصيبه قتامة الترميم، المستمرة منذ أعوام. تمد بصرك إلى الأعلى، فى جوف القبة، المليئة بقطع من الفيسفساء التى أبت إلا أن تلمع فى حلكة الظلمة، لتقرأ آيات مكتوبة بشكل دائرى مزخرف: «قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد». ومن منتصف الفجوة تتدلى نجفة نحاسية لا تضىء، وكلوبات بيضاء تهبط من كل نقطة فى السقف. تخرج من المسجد، عقب اختناق أصابك من اختفاء الهواء النظيف، تصعد إلى سلم خشبى من ناحية التكية المربوطة بالمسجد، لتشاهد مئذنة المسجد السامقة، التى تطل على مئذنة الأزهر وتبدو كأنها ترسل لها التحية، مئذنة عبارة عن ثلاث قلل حجرية، وسط قلة كبيرة، تحرس قبة المسجد الدائرية، التى يخرج من أسفل منها أعمدة صغيرة، تبدو فى هيئة المآذن الصغيرة. يحدثك المرشد السياحى الذى يرافقك حين يعلم عملك الصحفى، عن الروايات التى تفيد قتل صاحب هذه المجموعة لسيده، يلهج بالحديث عن التاريخ وحوادثه التى لا تنتهى، والتى تتكرر حتى فى الحاضر، أذناك تتوقفان عن السمع، وتنسى وجوده، فقط عيناك تجوبان المكان السابح فى عبق التاريخ، آسفة على الإهمال الذى طاله، وجعل لون تراب الحاضر بديلاً لبريق تاريخ الماضى.