ولنؤجل الكلام فى السياسة قليلاً لأننا لم نحل المشكلة الأهم وهى مشكلة البشر. لو عدنا لبعض علماء الاجتماع لنفهم ما هى الدوافع التى تحرك الإنسان نحو استخدام ألفاظ حادة تنال من الآخرين سمعة وعرضاً، فسنجد أنهم يفرقون بين ثلاثة دوافع للشتيمة: أولا، دافع إحداث التوازن النفسى بالتنفيس عن الغضب بتحقير الآخر والتقليل من قيمته، ثانيا دافع تحقيق الذات وإثبات العلو على الآخرين وإثبات أن الشخص جرىء شجاع قادر على أن ينطق وأن يفعل ما يعجز عن فعله آخرون، وتصبح هذه الوسيلة الأساسية للتميز عن الآخرين بأنه الشخص الأكثر قدرة على شتم وسب الآخرين، ثالثاً، دافع العادة وهى أن الإنسان من مرحلة مبكرة فى حياته لم يفرق كثيراً بين ما هو مقبول وغير المقبول اجتماعيا فصار عنده هذا مكان ذلك. والأصل فى الأمور أن أدوات التواصل الاجتماعى تكون أداة للبريدجينج (Bridging) أى تجسير (عمل جسر) بين الأشخاص من توجهات ومدارس فكرية مختلفة ليتعارفوا ويتعرفوا ويعرفوا ما كانوا لا يعرفون. وعلى هذا يفترض أن المواطن عادل الإخوانى حين يدخل فى نقاش جاد ومحترم مع المواطن سامى الليبرالى يخرج الاثنان وقد تعرف كل منهما على الآخر بشكل أفضل وتفهما أسباب الاختلاف وحددا مساحة الاتفاق. ولكن ما يحدث عادة هو أننا نجد هؤلاء يتشاتمون ويتنابزون بالألقاب ويستدعى كل واحد من الأنصار من يحول الحوار إلى سوق مزدحمة بالأصوات اللعانة والشتامة وتتحول أدوات التواصل الاجتماعى إلى أداة للبوندنج (Bonding) أى للتلاحم بين أبناء التيار أو الفكر أو الحزب الواحد ضد أبناء التيار أو الفكر أو الحزب الآخر. وهنا تحدث المشكلة: يزداد أبناء كل فريق تلاحماً فى مواجهة أبناء الفريق الخصم، وليس أن يتواصل ومن ثم يتعارف الأشخاص المنتمون لتيارات مختلفة. بعبارة أخرى يزاد مؤيدو فريق الأهلى تلاحماً وفى نفس الوقت يزدادون رفضاً بل وكراهية لمؤيدى الفريق الآخر، وتخسر مصر قدرة أبنائها على أن يكونوا إضافات لحياة اجتماعية سليمة. وما دور الشتيمة فى كل ذلك؟ الشتيمة هى أداة قتل الروح التشاركية لأن أى اختلاف فى وجهات النظر هو تنافس بين أفكار بين أناس يحكمهم حد أدنى من احترام بعضهم لبعض، أما سب الآخرين فهو تحقير مباشر للطرف الآخر، بما يعنى أن أى نقاش مهما كانت قيمته لا قيمة له من الناحية الفعلية. ومن يطالع ما يكتبه علماء الاجتماع عن الشتيمة كأداة لتحقيق الذات ينفذ بشكل تلقائى إلى ما يسمونه «عقلية الأقزام» بما تحمله من عدم الثقة بالنفس والإحساس المركب بالدونية الذى يجعل الإنسان يلجأ إلى تحقير الآخرين بالحط منهم بالألفاظ لأنه لا يملك أن ينافسهم أو يتكامل معهم بالأفعال. النصيحة العامة هو أن يسعى هؤلاء إلى التركيز على البناء والانشغال ببناء قدرات الإنسان الشخصية بدلاً من السعى إلى تدمير الآخرين. وقد جاء فى الحديث الشريف: «وهل يكب الناس فى النار إلا حصائد ألسنتهم». السياسة هى الدور الثالث فى بناء أساسه المقومات الأخلاقية ودوره الأول المقومات الفكرية ودوره الثانى المقومات الإدارية. أحياناً أشعر أننى نفسى أن أعمل برنامجاً تليفزيونياً يركز على المقومات الأخلاقية للنهضة وعلى مهارات التفكير النقدى وعلى مهارات العمل الجماعى، حينئذ ستنصلح أحوال السياسة والمجتمع بصفة عامة. وأحياناً أستشعر أن الإنسان يحمّل نفسه أكثر مما يطيق. وفقنا الله جميعاً لما يحب ويرضى.