أعظم ثمرات العبادات على الإطلاق هى التخلق، حيث إن المعرفة العميقة بالله تعالى إذا تدفقت فى القلب أيقظت فى باطن الإنسان أشرف ما فيه من المعانى والأخلاق والشِيَم، فتنبثق فى الباطن الميول الشريفة إلى الرقى، والميل إلى الأخذ بالأكمل والأهدى والأحكم، ومهما ظهر فى سلوك الناس من حوله من معاملات حافلة بالسلبية والتحايل والتحامل، فإن هذا لا ينال مما تدفق فى الباطن من تلك الميول الشريفة الصاعدة الناهضة، التى إذا انعقدت وتراكمت أثمرت الأخلاق، ولأجل هذا ربط الله تعالى العبادات والفرائض بالأخلاق دائما، إشارة إلى تلك الثمرة، وإلماحا إلى تلك البواعث الراقية التى تجيش وتتحرك فى القلب بسببها، وإلى كيفية نموها وإطلالها فى الباطن بالتدريج، فانظر مثلا إلى قول الله تعالى: «اتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» (سورة العنكبوت، الآية 45)، لترى أن الصلاة معاملة عُلْوِيَّةٌ مع الله تعالى، وإقبال جليل على رب العالمين، من قلب قد امتلأ بتوقير الله تعالى وتعظيم شعائره، فتحركت له فى القلب أشرف الميول والمعانى، فانضبط به السلوك الإنسانى، فتكونت بذلك الثمرةُ الأخلاقيةُ التى عبَّر عنها القرآنُ بقوله: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر»، وانظر مثلا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إنى امرؤ صائم)، رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، لترى أن الصيام ليس مجرد امتناع عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فقط، بل هو من وراء ذلك معاملة مع الله تعالى، وتعبد إليه، فاضت منه فى الباطن أنوار التوقير لرب العالمين سبحانه، والفهم عنه، حتى حرك فى الباطن أشرف الميول والنوازع العلوية، حتى استقام به الإنسان، على نحو لا ينال منه سوء الخلق من المحيطين به، ولا ينالون من حلمه واستمساكه بشرف ما هو فيه من معارج ومراعاة لجانب الحق، وانظر مثلا إلى قول الله تعالى: «الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِى الحَجِّ» (سورة البقرة، الآية 197)، لترى أن الحج وقد احتشد فيه الألوف المؤلفة، بل الملايين من البشر، وازدحموا فى بقاع محددة، ومواقيت مكانية وزمانية معينة، والمعتاد عند احتكاك تلك الألوف الهائلة على مدى أيام وأسابيع، وفى بقاع محددة تضيق بهم، أن ينشأ عن احتكاك البشر تَدَافُعٌ، ربما أسفر عن جدل ورفث، ونزول فى مستوى الكلام، ورغم ذلك فقد حرك الله تعالى فى القلب شهود المعاملة الإلهية المجيدة الكامنة وراء تلك العبادات والأركان، لتفيض القلوب هيبة وإجلالا لعظمة تلك المناسك، وإدراك أسرار الخصوصية والاصطفاء لتلك البقاع المقدسة، وأنه لا يليق فيها إلا الأكمل والأهدى، وأنها بقاع شريفة، مُتَوَّجَةٌ بالتشريف والانتقاء والتفضيل الإلهى لها، وأنها موضع نظر الله بالتخصيص والتفضيل، وأنها مهبط ملائكته العظام الكرام، مما يحرك فى القلب أشرف الميول، المثمرة للخلق الرفيع، فحينئذ فلا فسوق، ولا جدال، ولا مماراة، ولا منازعة، بل السكينة هى القيمة الحاكمة، والأخلاق هى الشعار السائد. (وللحديث بقية).