فى قصة طريفة عظيمة المعانى، يروى أن إماماً لمسجد لاحظ اختفاء أحد المصاحف المهداة إلى المسجد، فوقف فى المصلين خطيباً يذكرهم بالآخرة ويزيد لهم فى الموعظة ومحذراً من سرقة كتاب الله وبالجرم الذى يرتكبه اللص حينما يحرم المصلين من قراءة القرآن، وزاد فى موعظته حتى بكى المصلون جميعاً من شدة التأثر، فنظر إليهم الإمام متعجباً ثم قال: «كلكم تبكون.. فمن سرق المصحف إذن؟!». وقد ذكرتنى هذه القصة بحالنا الآن فى مصر، فكلما ظهرت مشكلة بكى الجميع على حالنا، حتى هؤلاء الذين كانوا سبباً فى صناعة هذه المشكلة، فنسأل كما سأل إمام المسجد: من سرق المصحف إذن؟ فعلى سبيل المثال وبالأمس القريب قام الإرهاب بإعداد خطة لاغتيال المسئولين فى مصر، وبدأ المخططون بوزير الداخلية فقاموا بتفجير سيارة مفخخة أمام موكبه، وتسببوا فى قتل عدد من الناس وإصابة العدد الآخر، إلا أنه وبعد الحادث مباشرة بدأت البيانات تتوالى بإدانة هذا الحادث حتى إنى أصبحت أتخيل أن الذى قام بتفجير القنابل نفسه قد أصدر أيضاً بياناً يدين فيه الحادث وربما يظهر على شاشة الفضائيات ليتحدث عن إدانة العنف ويقرر بأن الحوار هو أفضل الوسائل لإدارة الخلاف، وهكذا يبدو الجميع فى غاية البراءة حتى الذين ساهموا فى صناعة هذا المناخ وشجعوا على هذه الجرائم بقصد أو بغير قصد، فلا يعدمون الكلمات البراقة يقدمونها فى كل حديث، وكلهم يقرر أنهم ما كانوا يظنون أن الأمر سيصل إلى هذا الحد. وقد راجعت أقوال بعض المتهمين فى حوادث عنف كثيرة، فلم أجد واحداً منهم إلا ويقرر أنه لم يكن يقصد هذه النتائج وأن نيته كانت تستهدف الشرعية التى كان يريد عودتها، وقد قال أحدهم لى شخصياً إن حماس الجمهور هو الذى دفعه إلى ذلك. وهكذا يبكى الجميع ما وصلنا إليه من حال، فمن سرق المصحف إذن؟! وحينما بدأ اعتصام رابعة العدوية سألت بعض المنظمين له سؤالاً ونحن نتشاجر على هيئة حوار وكان مضمون السؤال حول النتائج المتوقعة لهذا الاعتصام، فقال أحدهم: «سيرجع مرسى إلى الحكم»، فوضعت له فرضاً جدلياً: «وماذا لو لم يرجع مرسى إلى الحكم، فما النتائج المتوقعة إذن؟!»، أجاب كبير المتحاورين: «يحصل اللى يحصل»، إلا أنه وبعد مرور أقل من شهر ملأت الدماء الشوارع، وبالطبع كان أكثرها من دماء المعتصمين الأبرياء ومن دماء مواطنين لا علاقة لهم بالموضوع، ولا مانع أيضاً أن تكون هناك دماء لمصريين يخدمون فى القوات المسلحة وفى الشرطة، وعمت الحرائق الديار كافة، وتم اقتحام قسم كرداسة وقتل من فيه، حتى أصبحت أهداف المقاتلين فى المظاهرات تدور حول حرق قسم أو قتل ضابط. ولم تكد تمر أيام أخرى فى سيناء إلا وتساقط الجنود واحداً بعد الآخر، ووصل الأمر إلى حد المذابح الجماعية، فلما قابلت كبير المتحاورين صاحب نظرية «يحصل اللى يحصل» وجدته كان قد سبقنى بإصدار بيان إدانة لما حدث من عنف فى سيناء، وكانت هذه هى أول إدانة لهذا الإرهاب وصادرة من كبير المتحاورين الذى كان يردد عبارة «يحصل اللى يحصل»، ثم قام آخرون بكتابة بيانات الإدانة، والعجيب أن أغلبهم كان من أبناء نظرية «يحصل اللى يحصل»، فمن سرق المصحف إذن؟! وفى واقعة أخرى، أذكر أن المرحوم حسن شحاتة، وهو الشيعى الذى قتل مع آخرين فى مركز أبوالنمرس، كان قد سبق اتهامه فى عصر الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وكانت تهمته الأساسية أمام نيابة أمن الدولة هى ازدراء الأديان، حيث إنه كان يتجاوز فى القول حينما يتحدث عن بعض الصحابة، إلا أنه وفى ذات الوقت ورغم معرفة الجميع بأمر تشيعه فإنه كان يحاسب بالقانون وقتئذ إذا ما تجاوز، ويتم تجديد الحبس له على ذمة قضية يحضر فيها معه محام وتوفر له الدولة الحقوق والضمانات، وقد كان هذا فى عصر الفساد أيام الرئيس حسنى مبارك، ولكن انظر معى ماذا حدث لهذا الرجل فى عصر الحرية التى كنا نرجوها ونتمناها، فقد شاءت الأقدار أن يعقد الرئيس السابق محمد مرسى مؤتمراً لم يتعرض فيه الرجل للشيعة أو الرافضة كما يطلقون عليهم، ولكن الذين تحدثوا بجواره هم الذين صرخوا فى وجه الرافضة، ويقصدون الشيعة، واتهموهم بالكفر والفسوق والعصيان، وقامت الدنيا وهتف الجميع وكأنما كانت مشكلة مصر الأساسية هى وجود بضعة آلاف من الشيعة على أرضها، ولم تمر ساعات إلا وهاجم المقاتلون منزلاً فى مركز أبوالنمرس، كان قد استضاف هذا المنزل المرحوم حسن شحاتة، وبدلاً من أن يقوم المقاتلون بتقديم المتهم حسن شحاتة إلى القضاء أو تسليمه إلى الشرطة قاموا بقتله وتشويهه هو ومن معه، وكأنما كانوا يتخيلون أنهم يضربون فى «كلب مسعور» أو أنهم يحرقون جثة «سلعوة»، فقد كان الحماس ظاهراً على كل المقاتلين حتى إننا كنا نشاهد قرية بأكملها تقتل مجموعة من العزل وتجرهم فى الشوارع وهم يصيحون صيحات النصر، إلا أنه وبعد الحادث مباشرة بدأ أهالى القرية بإدانة الحادث وكذلك المتهمون أنفسهم، فقد دانوا الحادث أيضاً، أما الخطباء الذين أطلقوا الاتهامات بالكفر على «الشيعة الرافضة» على حسب قولهم فقد دانوا الحادث أيضاً.. فمن سرق المصحف إذن؟! ونفس هذا الجدال العقيم تجده فى تمسك الطوائف الفكرية بنصوص دستورية خاصة، وكل يظن أن هذا النص هو الذى سينقذ البلاد من كوارث الاستبداد، وبعضهم يتفنن فى وضع الحواجز أمام التيارات الإسلامية ملوحين بالفشل الذى أصاب البلاد أثناء حكم الدكتور مرسى، بينما يناضل فريق آخر من أجل منع هذه النصوص، مشيرين إلى أن تجربة الدكتور مرسى ليست هى الدليل الذى يعتمد عليه، ولو أن الحوار بين الأطراف كان يأخذ شكلاً هادئاً لسارت الأمور فى مقامها العادى، ولكن النخب التى أضاعت ثورة 25 يناير هى نفسها التى تتناحر الآن لكى تفقدنا ثورة 30/6، بينما الإرهاب ما زال فى سيناء يضرب الصواريخ، وفى مدينة نصر يفخخ السيارات، وأخشى من يوم نقف جميعاً لنسأل من سرق المصحف إذن؟! والآن وبعد ثورة 30 يونيو المكملة لثورة 25 يناير فقد بدأ «حديث الطرشان» وعادت النخب إلى «المكلمة» التى كانت بعد ثورة 25 يناير وهم يدافعون عن ثورة 25 يناير باعتبار هذه الثورة هى الثورة الأصل التى يجب أن نحافظ عليها، ثم يظهر فريق آخر من «المتحفلطين» أيضاً ليؤكد أن ثورة 30/6 هى التى صححت المسار ولولا هذه الثورة ما كانت هناك ثورة، فيثور الخلاف بين أنصار الثورتين، وهو خلاف لا ينبنى عليه عمل بل يكون عادة هذا الخلاف هو الطريق إلى أن يقفز على الثورتين طرف ثالث لم يكن شريكاً فى إحداهما. وحينما يتحقق ذلك الخطر عندها فقط سيسأل الجميع و«المتحفلطون» معهم: من سرق المصحف إذن؟! وبمناسبة حوار الطرشان وخلاف النخب يروى أن رجلاً كسولاً دعا مجموعة من الكسالى على وعاء لحم شهى واختلفوا جميعاً فيما بينهم حول من يقوم بغلق الباب حتى لا يدخل عليهم حيوان فيأكل اللحم من أمامهم، إلا أنهم اتفقوا فى النهاية على أن يلتزموا الصمت فإذا ما قام أحدهم بالكلام أو بفتح فمه فإنه يكون مكلفاً بغلق الباب، وبعد ساعة من الزمان دخل عليهم من الباب المفتوح كلب جائع وأكل الطعام وهم لا يهشون الكلب طبعاً لأنهم ملتزمون بالصمت، وبعد أن أكل الكلب الطعام كله لعق الإناء، ولكنه آثر ألا يترك المكان قبل أن يعض أنف أحدهم فصرخ الرجل من شدة الألم، وهنا صاح الجميع وفى نفس واحد: «قم فأغلق الباب»!