هل نحن فى دولة حديثة (أو نسعى لاستكمال بنائها) أم فى ظل دولة أخرى تقدم الدين على الوطن وتجعل التفاوت فى المعتقد الدينى أساسا للتفرقة بين المواطنين؟ أجرى المركز المصرى لبحوث الرأى العام (بصيرة) استطلاعا للرأى حول تعيين نائب رئيس قبطى، وجاءت النتيجة الإجمالية أن نحو ثلثى العينة التى بلغت ألفى شخص (65.7%) أيدت هذه الخطوة، فى حين أن الثلث رفض ذلك (34.3%). وجاءت العينة ممثلة لشرائح اجتماعية مختلفة ومستويات تعليمية متباينة، وانتماء جغرافى متنوع ما بين ريف وحضر، وبحرى وقبلى، ومناطق حدودية. وكانت المناطق الحضرية، والشرائح الاجتماعية الأعلى تعليما والأكثر ارتفاعا فى المستوى الاقتصادى هى الأكثر تدعيما لتعيين نائب رئيس قبطى فى حين أن تحفظ ورفض الفكرة مبحثون من سكان الريف، الأقل تعليما، والأدنى فى المستوى الاقتصادى. هذه النتائج مفهومة، ومبررة إلى درجة كبيرة خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار التفاوت فى المستوى التعليمى والثقافى والاقتصادى لجمهور المبحوثين. وقد يكون فى هذه النتائج رسالة مهمة أن القاعدة العريضة من المجتمع لا تزال تنظر إلى مفهوم الوطنية بوصفه انتماء مواطنين للمجتمع أكثر من كونه تعبيرا عن مفاضلة بين المواطنين تبعا لانتمائهم الدينى. المسألة -فى جوهرها- ليست قانونية بقدر ما هى ثقافية. من يقبل أو لا يعترض على أن يكون هناك نائب قبطى لرئيس الجمهورية ينطلق بالتأكيد من المرجعية الثقافية الوطنية العامة للدولة المصرية، التى تبلورت على مدار عقود ولم تعرف فى نصوصها الدستورية تفرقة بين المواطنين فى تولى مناصب الدولة -من أعلاها إلى أدنها- تبعا لمعتقدهم الدينى، وإن ظلت هذه التفرقة ممارسة واقعية، فقد حجبت وظائف قيادية فى جهاز الدولة عن الأقباط مما يعطى دلالات سلبية على ولاء المواطنين المسيحيين. وبالمناسبة طال التمييز فى السابق مواطنين آخرين مسلمين لأسباب سياسية لا دخل للدين فيها. وهو ما يكشف عن حقيقة مهمة أن التمييز حيال مواطنين يطول أى شخص طالما أن المبدأ قائم، مرة بسبب الدين وأخرى بسبب الولاء السياسى، مما يجعل من الضرورة أن نبطل التمييز أيا كانت صوره، مؤكدين فقط على مبدأ الكفاءة، وهو بالمناسبة كان إحدى التوصيات التى خرجت عن المؤتمرين القبطى والمصرى (الإسلامى) عام 1911م، فيما عرف آنذاك بالشقاق الطائفى، فكان المشاركون فى المؤتمرين أكثر وعيا بالقضايا الوطنية مما نراه الآن. فى حدود علمى لم يكن «النائب القبطى» مطلبا رفعه الأقباط، مطالبهم أكثر تواضعا تتعلق بالمساواة والمشاركة، والعدالة. ولكن طرحت الفكرة فى المقام الأول من المرشحين فى انتخابات الرئاسة، وسرت بعد ذلك فتنة من يقبل ومن يرفض، ويمتحن المبدأ ذاته، وشاهدت حديثا تليفزيونيا لأحد المشايخ المعروفين يستحث رئيس الجمهورية العدول عن إعلان عدم ممانعته فى وجود نائب قبطى بدعوى أن التاريخ لن يغفر له فعلته. فى هذا السياق ينبغى أن نؤكد على أن «هموم الأقباط» لن تختزل فى وجود «نائب قبطى» ولكن يستعين رئيس الجمهورية بمن يرى فيه الكفاءة والاقتدار. لا ينبغى أن يُعين شخص لمجرد أنه قبطى، ولا ينبغى أن يٌحرم شخص كفء من هذا الموقع، أو أى موقع آخر فى الدولة لمجرد أنه قبطى. الحالتان تعبران عن طائفية مقيتة. ما نطالب به هو «المواطنة الطبيعية»، التى لا تستقيم أى دولة دستورية بدونها، وهناك من الإسلاميين من اجتهد منذ سنوات مؤكدا على انتهاء مفهوم الولاية العامة بمعناه القديم، وأنه لا يصح فى الدولة الحديثة التى شارك فى تحريرها من الاستعمار الخارجى ناهيك عن الداخلى مواطنوها مسلمين ومسيحيين أن يٌحرم مواطن من موقع سياسى أو إدارى لمجرد أنه مختلف فى المعتقد الدينى. كتابات عديدة أصدرها مثقفون معتبرون مثل المستشار طارق البشرى، والدكتور محمد سليم العوا، والدكتور أحمد كمال أبوالمجد، والشيخ يوسف القرضاوى تؤكد هذا الطرح، وتنفى أساس ومبررات التمييز، لكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الاشتباك مع الأفكار الرجعية التى تطفو على السطح، وتضغط على الرأى العام، وصانع القرار بزعم أنها تعبر عن رؤية إسلامية صافية لم تلوثها حسابات السياسة.