هناك فارق بين هوية الأزهر وجوهره ومنهجه، وبين أنشطته التى هى تجليات وأداءات لذلك المنهج، أما هوية الأزهر فهى مجموعة من المبادئ والقواعد، والاختيارات والأعراف العلمية، والمهارات التعليمية، وطرق التصدى للشأن العام، ومناهج الخدمة والحفاظ والتلقين لعلوم الأمة وتراثها، وتلك القواعد والأعراف ما زالت تصْقل وتتبلْور عبر تاريخ الأزهر، حتى صارت هى الإطار العام، الذى تقوم على أساسه أنشطة الأزهر الشريف، والأنشطة الأزهرية هى حلق التعليم، والمؤلفات، والشيوخ، والمواقف التاريخية الحاسمة، والأروقة الأزهرية، وهيئة كبار العلماء، والمعاهد الأزهرية، والجامعة الأزهرية، ومدينة البعوث، وغير ذلك من صور النشاط الأزهرى، وعبر تاريخ الأزهر كان المنهج والهوية يزدادان نضجا واستقرارا، بينما كانت أنشطته تتراوح ما بين ضعف وقوة، ومدٍ وجزْر، وخلل وإصلاح، وكانت تشهد فترات عاصفة، من اختيار الطريقة الأليق والأقوم، لخدمة ذلك المنهج وتلك الهوية، فتختلف المدارس الأزهرية فى اختيار الطريقة الأنسب لخدمة المنهج، ويختلف هؤلاء خلافات عاصفة، فى طرق التعليم، وما يضاف إليها وما يحذف منها، وكيفية التجاوب مع معطيات العصر؛ لكن تبقى الهوية ثابتة، وقد انشغلت فترة طويلة بدراسة المدارس العلمية الكبرى، التى نشأت فى مصر والشام والعراق والمغرب وتركيا، وتأملت أسباب فناء أكثر تلك المدارس، حتى أضع يدى على العناصر التى تفكك بسببها عدد من المدارس العلمية الكبرى، التى كانت تملأ السمع والبصر فى أيامها، وعكفت على كتاب: (الدارس، فى تاريخ المدارس) للعلامة النعيمى، المتوفى سنة 987ه، وقد تكلم فيه على أكثر من مائة وخمسين مدرسة علمية، والكتاب كله فى مدارس الشام، كالأشرفية، والضيائية، وغيرها، وسبقه الحافظ السخاوى، فألف كتابا عن المدارس العلمية الكبرى فى القاهرة، كالمدرسة الكاملية، والصلاحية، والمؤيدية، وغيرها، وأنا أحاول فى كل ذلك أن أضع يدى على الفارق بينها وبين الأزهر، ولماذا عاشت تلك المدارس قرناً أو قرنين من الزمان، ثم اندثرت، حتى إننا لا نعرف المكان الذى كانت فيه، ولماذا فى المقابل عاش الأزهر عبر تلك القرون ولم يندثر أو يتفكك، بل يزداد انتشارا رغم محاولات كثيرة لمسخ هويته، والتلاعب فيها، لقد كان عدد طلاب الأزهر سنة 1950م خمسة عشر ألفا، وكان تعداد سكان مصر ثمانية عشر مليونا، واليوم فى سنة 2012م، صار سكان مصر ثمانين مليونا، أى أنهم ضوعفوا خلال تلك الفترة خمس مرات تقريبا، فلو ضوعف عدد طلاب الأزهر بالمقدار نفسه، لكان عددهم اليوم خمسة وسبعين ألفا، لكنهم اليوم فوق المليونين، بالإضافة إلى نصف مليون طالب فى الجامعة، وخمسة وثلاثين ألف طالب فى مدينة البعوث، من مائة وأربع من الجنسيات، فلو قدرنا أن عشرين ألفا منهم أو ثلاثين ألفا، أو خمسين ألفا، على غير الهوية الأزهرية، ممن تم اختراقهم من هويات دينية أخرى، لكانت النتيجة أن الأزهر يتسع وليس فى طريقه إلى الزوال والتفكك، وقد كان الشيخ عبدالحليم محمود مثلا يبالغ فى إنشاء المعاهد الأزهرية فى كل قرية، وكل بقعة من مصر، فلما قالوا له: إن هذا سيؤدى حتما إلى ضعف المستوى، وضحالة الحالة العلمية لخريج الأزهر، قال لهم: سأواجه المد الماركسى والاشتراكية بهؤلاء، ويكفى أن يخرج من الأزهر وهو يحفظ: (قل هو الله أحد)، فكانت فكرته هى أن يحتوى الأزهر جموعا شعبية واسعة، وليس الغرض تحويلهم إلى علماء، بل مجرد الحفاظ على هويتهم ليس إلا، والحاصل أننى بدأت أتأمل حالة الأزهر قبل قرنين من الزمان، وتابعت القراءة الواسعة فى نحو مائة كتاب عن تاريخ الأزهر، ونحو مائتى مجلد طالعتها مطالعة تامة من أخبار الأزهريين وتراجمهم وسيرهم، ومجلة الأزهر كاملة فى مائة وخمسين مجلدا، وقرارات المجلس الأعلى للأزهر فى خمسة مجلدات، وعدد كبير من الدوريات والمجلات الصادرة فى مصر فى تلك الفترة، والتى ترصد التحولات الفكرية، والسياسية والاجتماعية فى مصر فى ذلك الوقت، وأرصد الفوارق بين مدرسة المحافظين من العطار، والباجورى، والفضالى، والأنبابى، والشربينى، والمطيعى، والدجوى، ومدرسة الإصلاحيين من محمد عبده، والمراغى، والظواهرى، وغيرهم، حتى أرى من خلال ذلك كله، هل الهوية الأزهرية فى طريقها إلى الزوال والتفكك، أو أنها باقية، مع تعثر وترهل أحيانا فى الأنشطة الأزهرية؟ وهل انسلخ الأزهر من هويته، وهو فى طريقه إلى التلاشى، أو أنه محفوف بأسباب البقاء التى حفظته طوال قرون، فى الوقت الذى أبيدت فيه مدارس أخرى كانت أكبر وأشهر من الأزهر؟ وسوف أتابع هنا الكتابة فى ذلك كله فى مقالات مقبلة بإذن الله.