إن من الواجب علينا الآن أن نتحرر من كل قيد فكرى، وأن نستعد لمواجهة تلك الحرب التى سنواجه بها، التى لم تبدأ بعد، وهى حرب متوقعة من أصحاب الجمود واحتقار الرأى الآخر وكل ما ظهر منها حتى الآن، إنما هى بوادر بسيطة ظهرت فى منطق الدفاع عن رابعة العدوية وقد كان منطقاً سقيماً لا ينبنى على فقه، ولكننا جميعاً عانينا من هذا المنطق السقيم وكانت المواجهة الحقيقية نلقاها إذا ما نصحنا بترك هذا الاعتصام عديم الحجة سقيم الأغراض من أجل ذلك نحن نستعد لمعركة جديدة حينما نواجه ما فرض على عقولنا من قانون «السمع والطاعة»، وكنت وغيرى نفعلها على أنها عبادة وعلى أنها حكم شرعى، إلا أن كثيراً منا فى الحقيقة -وكنت أنا منهم- كنا نخالف ذلك «السمع والطاعة» مراراً وتكراراً، ولعل ذلك قد منحنا جائزة الاستبعاد من التنظيم الخاص؛ ذلك أننا لم نكن من أهل الثقة الذين يطلق عليهم عادة داخل التنظيم الخاص فى الإخوان اسم أصحاب «النزعات الشخصية»، والآن وبعد أن منحتنا الأقدار والأحداث فرصة لكى نتأمل ما حاق بالجماعة من آثار سلبية فى الشارع المصرى، فإنه من الواجب علينا شرعاً أن نتأمل تلك الأحداث وتلك الآثار، وأنا أعرف مسبقاً أن هناك من يرى فى تلك الآثار «ابتلاء من الله» أو يجعل فلسفتها أنها «كيوم حُنين إذ أعجب المؤمنين كثرتُهم» أو أن يعتبرها البعض «كغزوة أُحد التى سيعود بعدها المسلمون أقوى مما كانوا» وهنا تكمن المصيبة فى تلك التفسيرات فكلها جميعا تدور حول قسمة الواقع والشعب والناس والإيمان والمعتقد بين فئتين؛ فئة مؤمنة وأخرى كافرة. من أجل ذلك يلجأ المستفيدون من «السمع والطاعة» إلى افتعال معركة وهمية يقسمون فيها الواقع بين معسكرين حتى يخلقوا مناخاً عسكرياً تكون «السمع والطاعة» فيه من الأمور المحمودة بل والمفروضة أيضاً بحكم المعركة، فهذه إذن هى فلسفة «السمع والطاعة» التى تدور حول معسكر يتخيل أنه يدعو وحده إلى الإسلام ودون مشاركة من أحد، ويكون ذلك أمام معسكر آخر يخالف أصل العقيدة مما يستوجب مقاتلته، ووفقاً لفكر المرحوم سيد قطب، الذى كان يدعو إلى الانفصال عن هذا المجتمع وإلى العزلة الشعورية عنه ويعتبره صورة من صور الجاهلية الأولى، فقد اعتبر المجتمع كله شيئاً والجماعة شيئاً آخر؛ فبرر ذلك لقادة الإخوان -وفقاً لما عايشت بنفسى وتعايشت معه أيضاً- إصدار الأوامر إلى قواعد الإخوان فى كل مكان وهى مطمئنة إلى أنها غرست فى نفوس الإخوان -لاسيما الخاصة منهم- نفسية مؤهلة لقبول تلك القرارات والأوامر وعلى هذا اعتمد التكوين النفسى لأعضاء الإخوان جميعاً إلا أن جماعة الإخوان تحتاج إلى المراجعة الآن وأول ما ينبغى أن يراجع هو تلك الآفة التى تعطل العقل ونعتبرها جريمة فى حق الفكر، بينما يعتبرها قادة الإخوان فضيلة تحض على الفكر فيطلقون عليها تلطيفاً من خطورتها على العقل اسم «الطاعة المبصرة» مع أنه فى الحقيقة لا يوجد شىء اسمه «الطاعة المبصرة» ولا حتى فى أدبيات التكوين النفسى للفرد فى داخل الإخوان المسلمين. إذن فالحقيقة التى لا مراء فيها أن أمر السمع والطاعة لا يمكن قبوله إلا فى ظل معركة من أجل ذلك فإن القادة يفتعلون تلك المعركة التى تقسم المجتمع وتمهد لمناخ يعيش فيه المسلمون أو الذين يتخيلون أنفسهم كذلك، وهذا هو موضوع مناقشة اليوم الذى أطرحه على إخوانى الذين عاشوا فى هذا الوهم من وجهة نظرى الذى يسمى ب«السمع والطاعة» الذى هو الواجب من وجهة نظرهم فى سبيل معركة موضوعها إقامة الإسلام، ويستحق هذا الأمر فى الحقيقة عقد المناظرات والندوات بين المختلفين فى هذا التكييف للسمع والطاعة؛ فبينما رأيته أنا وكثيرون غيرى أمراً يتناقض مع العقل البشرى ويعطل الطاقة التى وهبها الله للإنسان والحقوق التى يأتى على رأسها حق الاختيار، كما نرى أن السمع والطاعة قد انبنى على وهم اسمه «جماعة الدعوة إلى الإسلام» وقد تأكدنا بأنفسنا ومن خلال مخالطتنا للواقع أن المجتمع المصرى قد سبق تلك الجماعات فى السلوك الإسلامى وفى الأداء وفى الاعتقاد وفى الصفات وفى التطبيق أيضاً، وقد امتلأت المساجد والمعاهد والحقول بملايين من الذين يستيقظون عند صلاة الفجر، والملايين من الذين يحسنون معاملة الناس عند الشراء وعند البيع وعند التخاطب وعند التقاضى، فلماذا يكون التميز والتمايز إذن بين فئة تزعم أنها تدعو إلى الإسلام وبين فئة أخرى يظن بها أنها تجهل هذا الإسلام؟ وهنا يكمن الوهم الكبير الذى نتمنى أن نتباحث فيه بأدب الباحثين حتى لا تتكرر جريمة رابعة العدوية، وأنا هنا لا أعطى شرعية لأى فعل حدث فى رابعة سواء كان هذا الفعل من جهة الشرطة التى قامت بفض الاعتصام أو كان هذا الفعل من جهة المعتصمين، إنما أنا فى الحقيقة أبحث فى مدى شرعية ذلك السمع والطاعة، فهناك فريق وهم قادة فكرة الاعتصام وهم الذين اختاروا المكان وأصدروا أوامرهم على العموم بدعوة الناس بالاعتصام فاعتصم الناس ولم يسألهم واحد من هؤلاء الأبرياء عن دراسة الجدوى لمشروع الاعتصام الذى كان من أجل عودة الدكتور مرسى تحت شعار الشرعية، ولم يناقشهم أحد كذلك فى هذه الشرعية أو يسألهم عن سبب عدم الانتفاض من أجلها طوال سنوات مضت كان يحكمنا رئيس لا يأتى أصلاً بالانتخاب، وبرلمان لم يعرف معنى النزاهة والشرف فى إعلان النتائج، ومع ذلك كان الداعون إلى هذا الاعتصام هم جزءاً من هذا الماضى البغيض بل ويتعاطون ويتعايشون مع هذا التزوير بل ويسهمون فى المؤسسات التى تبنى عليه كما لم يسأل قادة الاعتصام أحد عن النتائج المتوقعة لهذا الاعتصام سواء جاءت هذه النتائج من يد تحترم القانون أو أنها جاءت من يد باطشة تضرب الناس وتقتلهم، وكلا الفرضين كان من الاحتمالات المتوقعة ولم يسألهم أحد كذلك ما إذا كانت واحدة من هذه الاحتمالات المتوقعة هى ضرر أشد من النتائج التى كان يرجوها الاعتصام أم أنها أضرار بسيطة، كما لم يسألهم أحد كذلك عما إذا كانت تلك الحرائق والجرائم والتدخل الأجنبى السافر وضعف الدولة والاقتصاد وفتح المعتقلات وإعادة الحكم الجازم والقبضة القوية هى من الأضرار أو من النتائج المحتملة من عدمه، أما تلك الطاعة التى نراها فهى طاعة لا تبصر ولا تسأل ولا تحاور ولا تتدبر وتقوم على افتراضية أن المجتمع يعيش بين فئتين إحداهما تدعو الأخرى إلى العقيدة عن طريق هيكلها، وأن معركتها مع المجتمع تتطلب أن يكون بين أفرادها قانون العسكرة والمعارك وهو قانون «السمع والطاعة» دون مناقشة أو تردد أو تعليل، فالثقة فى القيادة هى الأساس وتلك هى الطاعة التى حذر منها رسول الله فى الحديث المروى عن الإمام على رضى الله عنه فى الصحيحين الذى خلاصته «أن أميراً أمر أتباعه أن يلقوا بأنفسهم فى النار فأبوا ورفضوا فلما عُرض الأمر على النبى صلى الله عليه وسلم قال: لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة فى معروف».