في أثناء صعودي سلم مستشفى الدمرداش بالأمس للاطمئنان على بعض الحالات هناك.. وجدت شابا -لم يتخط الثامنة عشر عاماً بأي حال- ينظر إليَّ نظرات عجيبة.. لمحت نظراته وشعرت أني رأيته قبل ذلك بالفعل، ولكني استمريت في طريقي.. فبدأ بالتحرك تجاهي بسرعة مريبة، وأخذ يقترب أكثر وأكثر، حتي وصل بجانبي تماماً قبل أن يقول بصوتٍ أقرب إلى الصياح (مش إنت اللي عملت العملية لأبويا؟!). نظرت إليه وتذكَّرت بالفعل رؤيتي له بالأمس خارج باب العمليات بعد انتهائي من المشاركة في جراحة لوالده، حيث قُمتُ بطمأنة الأهل وقتها وهو معهم.. فنظرت له وابتسمت، ولسان حالي يريد الإجابة عن تساؤله بالقول "والله يعني.. على حسب!".. وبداخلي رغبة في الاطمئنان على حال الوالد قبل الإجابة! وفكرت في لحظة أن أتقمص دور الأستاذ أحمد عبد العزيز مجسداً شخصية البدري بدّار في ذئاب الجبل عندما عثَّر عليه الضابط بعد سنوات من البحث وناداه باسمه، فأجاب البدري محاولاً تغيير لكنَته الصعيدية "علشان مايعرفوش": (إنت تُقصدني أنا؟).. كل ذلك دار في بالي للحظات بعد سماعي سؤال الابن المُتحمِّس.. ولكننا تعلمنا منذ أن كنّا أطباء مقيمين بالمستشفى في مهنتنا هذه أن نواجه دائماً كل المواقف الصعبة وأن نصمد أمام أحلك الظروف.. ابتسمت بهدوء وأكدت له أنه "أنا اللي بيدور عليه".. فوجدته يُكمِل بنفس الحماس (تسلم إيدك.. ربنا يجازيك كل خير.. مش عارف أقول لك إيه والله".. وعرفت منه أن والده قد تحسن بوضوح والحمد لله بعد العملية.. ثم أخذت أشرح له أن الفضل كله لله فهو الشافي، وأني واحد من فريق الجراحين الذين أرادهم الله أن يكونوا سبباً في الشفاء. حقاً ما أصعب وما أجمل تلك المهنة العظيمة.. والتي تتعامل فيها مع الإنسان في أكثر اللحظات الحرجة بالنسبة له.. تراه في أضعف حالاته.. تُطَمْئِنه في أقصى درجات قَلَقه.. تتحمّل انفعالاته، بل وانفعالات ذويه ممن يخافون عليه ويهتمون بأمره. تسعى دائماً أن تصل بهذا المريض بإذن الله وعونه إلى أفضل مراحل الشفاء.. تتعرَّض من أجل ذلك لضغوط شديدة لا يعلمها إلا الله.. ضغوط بدنية ونفسية كبيرة.. سواء في أثناء الجراحة وأنت تبذل كل الجهد لإنجاز مهمتك على أكمل وجه، تركيز وصبر ومجهود ودعاء بالتوفيق.. كل هذا حتى تري مريضك بعد الجراحة في أفضل حال وقد جعلك الله سبباً في هذا.. ولكن علمتنا تلك المهنة أن الأمور لا تسير كذلك في بعض الأحوال.. ورغم كل ما بذلت من جهد، قد تحدُث مضاعفات.. وقد لا يستفيد المريض الاستفادة الكاملة مما قدمت له.. وهذا وارد جداً في مهنتنا.. ووقتها تزيد عليك الضغوط أكثر وأكثر.. شعورك بأن مريضك ليس على ما يرام "رغم عدم تقصيرك معه" هو بالفعل أصعب شعور. وعلى الجانب الآخر، فليس هناك شعور في الوجود أفضل من أن ترى مريضاً وقد جعلك الله سبباً في شفائه.. ودعاء جميل تسمعه من أم أو أب أو ابن أو زوجة.. أو لحظة احتضان أب لك والدموع في عينيه من فرط سعادته بشفاء ابنه على يديك بإذن الله وامتنانه الشديد لك. إذا أردنا أن نكون أطباء بمعنى الكلمة.. فعلينا أن نسعى في طلب العلم ونُطوِّر من أنفسنا.. علينا أن نعمل ونجتهد ونراعي الله في عملنا للوصول إلى أفضل النتائج.. علينا أن نتيقَّن من أن الشفاء من عند الله وحده، وأننا مجرد أسباب.. فنجتهد ونحاول ونسعى. والأمر كله بيد الله.. لا نُقصَّر في عملنا مع أي مريض مهما كانت الظروف.. ولا نلوم أنفسنا أكثر من اللازم ما دمنا قد فعلنا ما يُمليه علينا ضميرنا وشرف مهنتنا. أدعو الله أن يصلح ما بين أيدينا، ويجعلنا سبباً في الخير دائماً.