كان كلام المشير طنطاوى مختلفاً هذه المرة، أو بالأحرى أكثر حدة ووضوحاً عن أى مرة سابقة، لقد قال الرجل بشكل مباشر: «إن مصر لكل المصريين، وليست لمجموعة بعينها، وإن القوات المسلحة لن تسمح بذلك»! لقد جاءت هذه الكلمات خلال لقاء المشير بعدد من الضباط والجنود خلال حفل تسليم وتسلم قيادة الجيش الثانى الميدانى، كان المشير قد انتهى منذ قليل من لقائه بالوزيرة الأمريكية هيلارى كلينتون، ويبدو أن ما قاله كان رداً مباشراً على ما سمعه من كلينتون! لقد ذهبت وزيرة الخارجية الأمريكية لمقابلة المشير، بحضور عدد من أعضاء المجلس العسكرى فى وقت مبكر من الصباح، بعد لقاء أجرته مع رئيس الجمهورية مساء السبت، خرجت بعده لتعلن، فى مؤتمر صحفى وبحضور وزير الخارجية المصرى، محمد كامل عمرو، «أن دور الجيش المصرى يجب أن يقتصر على حماية الأمن القومى، أى أن يعود إلى ثكناته، ويتخلى عن سلطته التشريعية والمشاركة بأى دور فى إدارة شئون البلاد»! كان المشير مستفَزاً من هذه التصريحات التى تمثل تدخلاً سافراً فى الشئون المصرية وانحيازاً لطرف ضد طرف آخر بقصد إثارة الوقيعة بين الجانبين، ولذلك كانت كلماته حادة، عندما تحدثت كلينتون على دور الجيش وعلاقته برئيس الجمهورية! لقد تساءل المشير خلال اللقاء عن الأسباب التى دعت كلينتون إلى التحريض ضد الجيش المصرى من خلال تصريحاتها، غير أنها لم تجد إجابة واضحة سوى ترديد بعض المقولات المغلوطة التى أسرَّت بها إليها السفيرة الأمريكية آن باترسون، خلال لقاء العشرين دقيقة داخل الطائرة وقبل أن تهبط منها كلينتون! كانت السفيرة قد أوحت لكلينتون أن هناك تدخلاً مباشراً من المجلس العسكرى فى شئون الحكم، وأن الرئيس لا يستطيع أن يمارس صلاحياته كاملة، لأنه مكبل بإعلان دستورى يجب أن يسقط، وأن حكم المحكمة الدستورية ببطلان مجلس الشعب هو اعتداء على الديمقراطية وعلى مجلس منتخب! لقد أراد المشير فى هذا اللقاء أن يلقن كلينتون درساً قاسياً وأن يؤكد لها أن الجيش كان وفياً فى تعهداته، وأنه سلم السلطة التنفيذية كاملة إلى الرئيس المنتخب، وأن بطلان مجلس الشعب جاء نتيجة حكم واجب النفاذ من المحكمة الدستورية، وأنه لن يقبل بممارسة الضغوط للتخلى عن الشرعية ومخالفة أحكام القضاء! لقد خرجت كلينتون بعد هذا اللقاء الذى استمر قرابة الساعة، وهى على يقين أن الجيش المصرى لن يقبل بالتخلى عن الإعلان الدستورى المكمل، كما لن يقبل بعودة مجلس الشعب مرة أخرى، ولذلك فضلت عدم الإدلاء بأى تصريحات صحفية، لأنه لم يكن لديها ما تقوله! أما المشير فقد قرر أن يخرج إلى العلن، وأن يخاطب الجميع بقوله: «إن مصر لكل المصريين وليست لمجموعة بعينها، وإن القوات المسلحة لن تسمح بذلك»! بعض المراقبين السياسيين قالوا إن كلمات المشير تعنى أنه لن يقبل الهيمنة الإخوانية على مقاليد الحكم فى البلاد، ولن يسمح بتسليم السلطة التشريعية إلا بعد وضع الدستور وانتخاب برلمان جديد، وأنه لن يقبل أبداً بأى إعلان دستورى يصدر من الرئيس لإلغاء الإعلان الدستورى الحالى! وهناك آخرون رأوا أن سوابق المشير فى ذلك كثيرة، وأنه سوف يتحاشى الصدام ويبحث عن حل وسط يرضى جماعة الإخوان ويحقق الكثير من أهدافها ضمنياً عبر المفاوضات المباشرة بين الطرفين، من خلال المجلس العسكرى ومؤسسة الرئاسة. لقد كان أمام المجلس العسكرى فرص عديدة للحسم واتخاذ قرارات تاريخية ينجز بها أهداف المرحلة الانتقالية كما كان محدداً لها سلفاً فى الإعلان الدستورى الأول، الصادر فى 12 فبراير من العام الماضى، إلا أن المجلس رضخ للضغوط واستجاب للمطالب التى تتعارض مع القانون والدستور وأمن البلاد، وبدا ضعيفاً ومتردداً بطريقة أصابت كثيراً من المصريين باليأس والإحباط! إن الموقف من الجمعية التأسيسية حال الحكم ببطلانها سيكون هو الاختيار الأخير للمجلس العسكرى ومدى قدرته على الحفاظ على الشرعية والدستور، فإذا ما تصدى لهذه المهمة بكل جرأة وشجاعة فسوف يستعيد ثقة الشارع مرة أخرى، إما إذا تخلى ورضخ وضرب بالدستور والقوانين عرض الحائط، فسوف يؤكد للجميع ما يردده البعض عن ضعف المجلس العسكرى، وعن أشياء أخرى عديدة لا أريد الخوض فيها! المجلس العسكرى هو صاحب السلطة التشريعية، وهو المسئول عن تشكيل الجمعية التأسيسية حال الحكم ببطلانها، ولن يكون أمامه خيار آخر سوى تفعيل هذه السلطات، وإلا فإن الشارع الغاضب سوف ينقلب عليه، وسيتحول الذين كانوا يهتفون باسم المشير ويرفعون صوره إلى خصوم لدودين ضده وضد المجلس العسكرى بأسره! لن يقتنع الناس هذه المرة بأى حجج تساق فى هذا المجال، وسيدركون ساعتها، أنهم تعرضوا لأخطر خديعة فى تاريخ الوطن الحديث، وساعتها لن يكونوا وحدهم بكل تأكيد! إن أحداً لا يريد الصدام ولا يسعى إليه، ولكن يبدو أن جماعة الإخوان قررت أن تمارس أكبر قدر من الضغوط على المجلس العسكرى والقضاء على السواء، إنها فرصتهم الأخيرة للتكويش على كل شىء، عبر الإرهاب الفكرى والحرب الإعلامية المنظمة ودعوة المليونيات، غير أن المعادلة يمكن أن تنقلب رأساً على عقب إذا ما قرر الجيش أن يتصدى مدافعاً عن الشرعية والدستور والقانون بشكل جاد وواضح وصريح!