لم يعد ثمة جدل في أن الأزمة العنيفة التي تفجرت أواخر مارس الماضي بين المجلس العسكري الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين، واستمر غبارها حتى الآن، كانت أزمة "حقيقية" ولم تكن "تمثيلية"، على كثرة ما تعود الشعب المصري من تمثيليات في أروقة الحياة السياسية. ومع أن الأزمة – التي اتخذت شكل تراشق لفظي عنيف في بيانات معلنة من جانب الجماعة، ثم كرد فعل من جانب المجلس الأعلى للقوات المسلحة – بدا وكأنه تم تجاوزها بتفاهمات في الكواليس بين الجانبين، إلا أنها في الواقع كانت إرهاصاً باستمرار نوعٍ ما "حتمي" من الصراع فرضته طبيعة المرحلة، وفرض هو بدوره على جميع المحللين مناقشة مدى اقترابه من حيث "الحالة" من أزمة الإخوان/عبد الناصر سنة 1954، حيث من المغري جدا وجود تشابهات كثيرة ومعروفة بين الموقفين. ودون أن نجتر مجدداً وقائع الماضي الدامية في صراع الإخوان والعسكر 1954، وهي معروفة للجميع، وإن كان كل طرف يفسر التاريخ – أو حتى يعيد كتابته - من وجهة نظره، وبعيداً عما يجري منذ أواخر الشهر الماضي من اتهامات متبادلة وتهديدات مستترة بين الجانبين أثارت قلقاً عاماً واسعاً، فإن الفترة المقبلة هي بالتأكيد الأخطر والأكثر حسماً، ليس فقط بالنسبة لكل من المجلس العسكري والجماعة، ولكن أساساً لشكل الحياة السياسية في البلاد لعدة سنوات قادمة. والوضع الآن على ما اكتسبه من معطيات جديدة منذ اندلاع الأزمة الكلامية الأخيرة لا يزود المحلل بالكثير من العون على التكهن بسيناريو واحد بسيط، فلدينا الآن أوراق عدة يلعب بها بمهارة المجلس العسكري، ومهارته – على خلاف كثير مما يقال – متفوقة على مهارة الطرف الآخر. ومن هذه الأوراق، على سبيل المثال، دخول محسوبين على النظام السابق في سباق الرئاسة، ومنها بقاء المادة 28 سيئة السمعة في الإعلان الدستوري والتي تثير شكوكاً منها فرضية التحكم في تحديد الحاكم المقبل، ومنها امتلاك الصلاحية الدستورية لحل البرلمان بأغلبيته الإخوانية، ومنها أن ما اعتقد الإخوان – بفرط ثقة بالنفس يحسدون عليه – أنه اعتراف نهائي من "الدولة" بمشروعية جماعتهم، اعتماداً على ما يصرون عليه من أنها تعمل بنفس الترخيص القديم الصادر سنة 1928! دونما حاجة لاستصدار ترخيص جديد بموجب التشريعات الجديدة الخاصة بالجمعيات الأهلية، ليس في حقيقته أكثر من "غض للطرف" من جانب "السلطة الحالية" وليس "الدولة" بالمعنى القانوني، وبالتالي فورقة حل الجماعة نفسها أو اعتبارها مجدداً غير مشروعة مازالت سيفا مسلطاً فوق رقبتها، ومنها أن ما كانت تعتقد الجماعة – ولا تزال – أنه "شعبيتها الطاغية بالشارع" كورقة لعب رئيسية قد جرى "خفض قيمته" من خلال حملات نراها استخبارية بامتياز لتشويه صورتها، واصطياد أخطائها وتعرية جوانب سلبية لها أمام القاعدة الأوسع من الجماهير من غير المنخرطين في صفوفها انخراطا "تنظيميا". أما أوارق الجماعة فليست كثيرة ولا قوية.. والبرلمان الذي بيدها لا يسمن ولا يغني من جوع في ضوء معطيات الحياة السياسية للفترة الانتقالية وتقلباتها ونزع معظم صلاحياته وتهديده بالحل، سواء بحكم القضاء أو بحكم تعديل الدستور، فجميعها احتمالات قائمة. كما أن ترشيح الجماعة للدكتور محمد مرسي، الذي دفعت به في آخر لحظة ليكون مرشحاً "بديلاً" للمهندس خيرت الشاطر، لا يكفل له وحده النجاح، لأن الأمر هنا متعلق بعشرات الملايين من الناخبين وليس بالولاء التنظيمي لأعضاء الجماعة فقط. وقلة أوراق اللعب بأيديهم ومحدودية تأثيرها لا تطمئن خصوم الإخوان أو المتوجسين من ارتقائهم الحكم بقدر ما تخيفهم، ونحن هنا مراقبون محايدون، لأن سطوع نجمهم في ظل هذه المعطيات لن يكون له معنى عندئذٍ سوى أنهم اختاروا نبذ المباديء وتغليب المصالح البراجماتية الصرفة، وعندئذٍ فقط ستكون الأطراف المعنية قد اتفقت على "قواعد جديدة للعب". فنحن نرى أن التوصيف الصحيح للأزمة الحالية بين الطرفين يكمن في عدم وضوح قواعد اللعب حتى الآن، وعدم اتفاق الأطراف عليها، وعدم وضوح الرؤية، فإذا ما انجلى الموقف بالنسبة لهذه الإشكالية تحددت المواقف النهائية لكل طرف، وليس فقط بالنسبة للجماعة والمجلس، بل للواقع الواقع السياسي الجديد في ضوء ذلك كله.