باتت حملات الاعتقال التي تشنُّها أجهزة الأمن المصري بحقّ قادة وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين من الأمور الروتينية، التي يستدعي توقفَها، وليس حدوثها، سؤالًا عن السبب والمبرِّر، وإن كان المحللون والمراقبون لا يتوقفون –ربما بحكم العادة والوظيفة- عن البحث والتنقيب عن الجديد والمختلف في كل حملة، بحكم أن ملف الإخوان من الأمور الرائجة إعلاميًّا، كما أنه يحظى بمتابعة واسعة من الدوائر السياسية والأمنية، إقليميًّا ودوليًّا، ولذا فإن وسائل الإعلام تتعامل كل مرة مع حملات الاعتقال كما لو كانت حدثًا غير مسبوق، مع أن الكثيرين يوقنون في قرارة أنفسهم بأنه لا فلسفة أو سياسة تحكم ذلك الأمر، وأنها مجرد قرارات أمنية، قد تتلاقى أحيانًا مع معطيات التحليل السياسي، وكثيرًا ما تبدو شاردةً عن أي سياق. وإذا ما طبقنا ذلك على الاعتقالات الأخيرة، التي طالت النائب الأول للمرشد واثنين من أعضاء مكتب الإرشاد، نجد أنها تتصادم مع معطيات التحليل السياسي التي ذهبت إلى أن الجماعة ذاهبةٌ لهدنة طويلة مع النظام، بعدما أسفرت الانتخابات الأخيرة داخل الجماعة عن صعود مرشد جديد محسوب على الجناح المحافظ، والذي يميل إلى التركيز على الجانب الدعوي والتنظيمي مع تحجيم جانب السياسة والعمل العام تجنبًا لمزيد من الاحتكاك مع النظام، وتزامن مع هذا الصعود خروج كل من عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب مع عضوية مكتب الإرشاد، والاثنان يقول المراقبون إنهما من قادة التيار الإصلاحي، الذي يؤيد مزيدًا من الانخراط في العمل العام، عبر نسْج شبكة تحالفات مع مختلف القوى السياسية. صفقة مزعومة وفي ضوء ذلك ذهب الكثيرون إلى أن الجماعة مقبلةٌ على عقد صفقة مع النظام تقلِّل بمقتضاها من حجم مشاركتها في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وتخفف من معارضتها لسيناريو توريث الحكم، إذا ما تَمَّ تمريرُه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وذلك في مقابل وقف حملات الاعتقال وغضّ الطرف عن أنشطة الجماعة الاجتماعية والدعوية، وعزَّز من هذا السيناريو أن الفترة التي سبقت وتلت انتخابات الجماعة شهدت موجة إفراجات غير مسبوقة، أدت لخلو السجون من معتقلي الإخوان بشكلٍ شبه تام، لكن الاعتقالات الأخيرة جاءت لتنسف تلك المعطيات من جذورها. هل توقف المحللون عند هذا الحد وأقروا بأن الأمر لا يخضع لمعاييرهم وأدواتهم؟ بالطبع لم يحدث ذلك، حيث أعاد هؤلاء المحللون ترتيب أوراقهم بحثًا عن مسوِّغات تبرِّر تلك الاعتقالات، وبذلك نقلوها من جانب "اللا منطق" لتصبح منطقيةً ومبررة، طارحين هذه المرة سببين جديدين: الأول يقول: إن الحكومة كانت تراهن على أن الانتخابات الداخلية سوف تقود الإخوان إلى حالة من الخلاف والتشاحن الشديد، وهو ما سيحظى بتغطية إعلامية مكثفة، مما يؤدي لتشويه صورة الجماعة مجتمعيًّا، ويظهر قادتها أمام قواعد الجماعة بمظهر المتكالبين على المناصب، بما يسقط هالة التبجيل والأخوة والتجرد المحيطة بالجماعة وقادتها، ولأجل إسقاط أي اعتبارات أخلاقية قد تمنع بعض القادة من الانخراط في هذا الخلاف أو طرح الخلافات علنًا، قام الأمن بالإفراج عن قادة الجماعة المعتقلين قبل أيام من الانتخابات، مع إعطاء إشارات بأنه لن يتدخل في الأمر، وبذلك أصبح مَن لديهم انتقادات أو تحفظات في موضع أخلاقي أكثر قوة. انتهت اللعبة وبالفعل أسفرت الانتخابات عن حالة من التشاحن، خاصة أن البعض، داخل الجماعة وخارجها، تعامل مع خروج حبيب وأبو الفتوح باعتباره انقلابًا، وإقصاءًا للجناح الإصلاحي داخل الجماعة، وتوالت مئات التحليلات والتعليقات في وسائل الإعلام، بمختلف أشكالِها، تؤكد على سيطرة "القطبيين" على الجماعة، وأنها في طريقها للانعزال عن المجتمع، لكن هذا التشاحن سرعان مع خفت مع تنصيب د.محمد بديع مرشدًا للجماعة، كما أن الانتقادات التي وجهت لعملية الانتخاب سرعان ما أخذت طريقها القانوني داخل أُطُر الجماعة، وعند هذه النقطة شعر الأمن أن اللعبة وصلت إلى نهايتها، وأنه لا بدَّ من ضربة جديدة قبل أن يبدأ المرشد ومكتب الإرشاد الجديد في إعادة ترتيب الأوضاع داخل الجماعة، وترميم الضرر الذي أحدثته الانتخابات وما شدته من شد وجذب، خاصة أن الاعتقالات شملت د. محمد عزت رجل الجماعة القوي والممسك بمفاتيح التنظيم، ود. عصام العريان المتحدث الإعلامي، وحلقة الوَصْل بين الإخوان والقوى السياسية الأخرى. وهنا يأتي السبب الثاني الذي ساقه المحللون لتفسير الاعتقالات، حيث اعتبروا أن النظام أراد قطع الطريق على حالة التوافق التي بدأت تتبلور داخل الإخوان تجاه تفعيل الأطر المؤسسية للجماعة، خاصة مجلس الشورى، حيث سعى البعض لتحويل انتقاداتهم وغضبهم تجاه ما اعتبروه مخالفات وشوائب لحقت بعملية الانتخاب، إلى طاقة إيجابية تطالب بتعديل لائحة الجماعة لتصبح أكثر وضوحًا وديمقراطية، وتفعيل دور مجلس شورى، كأداة رقابية على أداء المرشد ومكتب الإرشاد، بعدما تعرض للتجميد طويلًا بسبب الاعتبارات الأمنية. وبالطبع لم يرق ذلك لأجهزة الأمن، التي تسعى دومًا لاستنزاف طاقة الجماعة كي لا تغادر خانة "رد الفعل"، إذ أن تلك التعديلات كانت ستمنح الجماعة قدرة أكبر على الفعل المستقل، من خلال توسيع دائرة اتخاذ القرار، وهذا أكثر ما يخشاه النظام. سياقات مختلفة وبالإضافة لهذين السببين، تضمنت التحليلات العديد من الأسباب المكررة، مثل كون الاعتقالات محاولة لإرباك وإجهاض استعدادات الإخوان للانتخابات المقبلة، وأنها رسالة تحذير كي تخفف الجماعة معارضتَها لتمرير عملية توريث الحكم، وضوء أحمر إلى المرشد الجديد الذي شدَّد في الكلمة التي أعقبت الإعلان عن تنصيبه على حرص الإخوان على التنسيق مع قوى المجتمع الأخرى، واستمرارهم في الانخراط بقوة في العمل العام. ولا يمكن عزل هذه الأسباب عن السياق العام للمجتمع، حيث أن النظام يتعاطى حاليًا مع ملف الجماعة متحررًا من الضغوط الخارجية التي سبقت انتخابات برلمان 2005، مما أجبر النظام – حينئذ- على لجم قبضته الأمنية، والسماح بأجواء انتخابية تعد الأكثر حرية وتسامحًا منذ انتخابات 1987، كذلك فإن الإشراف القضائي الذي ظلَّل الانتخابات السابقة، ولولاه لم حقق الإخوان عشر ما حصدوه من مقاعد، أصبح في ذمة التاريخ، بعدما أجرى النظام تعديلات دستورية أسقطت مبدأ "قاضٍ لكل صندوق"، الذي وفَّر لانتخابات 2005 نزاهتها النسبية، يضاف لذلك أن حالة الحراك السياسي الذي عرفته البلاد بدءًا من عام 2004 وشهد ظهور العديد من حركات الاحتجاج السياسي، تحول إلى سكون وموات تام، وأصبح النزول إلى الشارع باهظ التكلفة، وبدون مردود يذكر. الانسحاب حلًّا ولعل تلك السياقات تفسر دعوة د. عبد المنعم أبو الفتوح، الذي يوصف بزعيم تيار الانفتاح المجتمعي داخل الجماعة، بأن تنسحب الجماعة من المنافسة الحزبية، أي انتخابات مجلسي الشعب والشورى والمحليات، لمدة 20 عامًا، وذلك بهدف سحب الذريعة التي يستخدمها النظام في الخارج والداخل لتبرير قمْعِه للحريات، وفي تلك الفترة تقوم الجماعة بدعم مجموعة من المرشحين الوطنيين الليبراليين، موضحًا أن الجماعة ظلَّت حتى عام 1984م خارج البرلمان وكانت ملء السمع والبصر، وأنها الآن لديها 88 نائبًا في البرلمان ولا تعرف كيف يدار وكيف تسير الأمور. دعوة الإخوان لاعتزال السياسة، بمعناها الحزبي والتنافسي، ليست جديدةً، لكن الجديد هو صدورها من قيادة إخوانية بحجم أبو الفتوح، كما أن المبرِّر الذي ساقه يبدو مختلفًا، حيث أن الدعوات السابقة استندت إلى أن العمل السياسي للإخوان طغى على الجانب التربوي والدعوي، في حين أن مردودَه كان ضعيفًا للغاية إذا ما قيس بالتكلفة الباهظة التي تحملتها الجماعة في سبيل ذلك، فضلًا عن أن إمكانيات التغيير والإصلاح عبر آليات اللعبة السياسية تبدو محدودةً للغاية في ضوء الضعف العام للحياة السياسية وغياب الحريات. وإذا ما وضعنا حملة الاعتقالات الأخيرة بجوار دعوة أبو الفتوح، يمكن أن نخلص إلى أن مناقشة جدوى العمل السياسي للإخوان، سواء بالنسبة للمجتمع أو للجماعة، أصبحت مسألة مطروحة بقوة، وأن هناك تياراتٍ متزايدةً داخل الجماعة وخارجها باتت ترى في الأمر نوعًا من "التهلكة" غير المبرَّرَة، فالنظام يفعل ما يحلو له، من تصعيد أو تهدئة، بينما تفتقد الجماعة –في المقابل- لأي أداة للضغط أو الفعل، حتى أصبح الأمر دائرةً مفرغةً تحتاج إلى خطوة جريئة وحاسمة للخروج منها، وهو ما ستكشف عنه الأيام. المصدر: الاسلام اليوم