مُلثماً بشال عراقى يغطى مُعظم وجهه.. مرتدياً قميصاً شتوياً فى عز الصيف.. وبنطالا كان أسود، لكن «أكل العيش» حوّله إلى رمادى مُتعدد الثقوب.. وحذاء ضيقا تطل منه أصابع قدميه.. يقبض بيده اليسرى على عود جريد، ينتهى بقطعة صفيح مُفرغة بشكل تقليدى، بينما تتحرك يده اليُمنى فى اتجاهات مختلفة حتى يحتك السلك المعدنى بالخيط المتين فيُصدر نغمات موسيقية تُذكرك فور سماعها بالتراث المصرى الذى انكسرت نغماته على سلم الحداثة. «الضوء الشارد».. «وأنا على الربابة بغنى».. نغمات موسيقية يعزفها شاب ثلاثينى يدعى «رفعت أبوزيد» بأنامله الرفيعة مثل أقلام الحبر. يتحرك بجسده النحيل بين الشوارع والحوارى فى الظل، فالشمس بالنسبة له خط أحمر يبتعد عنها ما استطاع بعد إصابته بقرحة فى المعدة وانفجار فى القولون أصابه منذ سنوات بسبب العمل تحت الأشعة الضارة. تسمع ربة المنزل صوت موسيقى متوازنا بالسجع والإطناب. تطل من الشرفة بحثا عن مصدر الصوت لتجده صادرا عن ذلك الشاب النحيل السائر بخطوات متباطئة: «أنا ابن الخطاوى وابن البلاوى وابن اللى عايز عيدان غيطُه تطرح غناوى.. وابن الأمل والعرق». كان قابعاً داخل قريته الصغيرة فى مركز مغاغة بمحافظة المنيا، مصطلح «الطفولة» لم يمس أوتار قلبه الصغير، والده كان يعمل «مبيض محارة» وينفق على خمسة أبناء يتوسطهم «رفعت»، وعندما بلغ السادسة وجد أنداده يلتحقون بالمدارس بينما فاته قطار التعليم.. عمل كصبى فى مصنع بلاط، وعندما وجد الأمل فى «العاصمة» قرر الذهاب إليها: «وجيت المدينة.. معلق فى كتفى الربابة الحزينة.. لقيت النجوم وشها فى التراب.. وفوق الميدان كاكة نفس الغُراب.. ونفس الإيدين اللى تضرب فى بعض بأسف».. ليترحم «رفعت» على أيام الهنا التى كان يعيشها فى قريته. يحمل «رفعت» على كتفيه صندوقاً خشبياً ممتلئا بالربابات المصنوعة من أعواد الجريد وصورة أسرته الصغيرة تسيطر على ذهنه. أم وأربعة أطفال أكبرهم «أميرة» ذات السبع سنوات، التى حارب والدها لإلحاقها بالتعليم المجانى فى إحدى المدارس المحيطة بغرفته الصغيرة التى يسكنها فى منطقة «أبوالنمرس». يُفكر فى السنة المقبلة التى ستبلغ فيها ابنته الأصغر «بسمة» ست سنوات، بينما زادت عليه الحمولة وتحولت ملامحه الثلاثينية إلى خطوط عريضة كشفت عن شيخوخة مبكرة. يبيع رفعت الربابة بجنيهين ويعود آخر اليوم بالفتات، يدخر جزءاً من الإيراد ويشترى بالباقى لبناً لمولودته الصغيرة «سلمى»، أما «محمد» الولد الوحيد ل «بائع الربابة» ف «كيس شيبسى» كافٍ بالنسبة له، ومع اقتراب نهاية الشهر يجمع مدخراته: «200 جنيه» ل«صاحب الشقة» والباقى فُتات: «الحمد لله.. على الأقل الواحد بيكسب بالحلال.. وأنا لو عاوز فلوس كتير ممكن أسرق وأنهب لكن هعيش إزاى بعد كده؟.. جوز جنيهات حلال أحسن من فلوس الدنيا لو حرام».