فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر بذلت وسائل الإعلام والثقافة الجماهيرية جهوداً كبيرة لإقناع عموم الشعب المصرى الكريم بأن «البدلة الشعبية أحسن من الجلابية». كانت أجهزة الدولة آنذاك تحاول دمج الشعب فى حركة التصنيع التى يقودها الرئيس لنقل البلاد من المجتمع الزراعى إلى المجتمع المتكامل الذى يجمع بين الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، وكانت الغالبية العظمى من الناس فى ذلك الحين لا تعرف من الملابس سوى الجلباب، وأراد عبدالناصر ونظامه إقناعهم بارتداء البدلة الشعبية لتغيير ثقافتهم الجماعية وتحويلهم من الزراعة إلى الصناعة، وانضم عبدالحليم حافظ آنذاك إلى هذه الحملة بأغنية «بدلتى الزرقا» التى يمتدح كاتبها ملابس العمال ويدعو الناس للالتحاق بالعمل فى المصانع الجديدة. استجاب كثيرون لدعوة النظام وظهرت فى البلاد البدلة الشعبية التى تشبه «البيجاما» فى كل شىء ما عدا القماش الذى صار من الصوف أو الألياف الصناعية بدلاً من الكستور. وتحولت هذه البدلة فيما بعد إلى زى رسمى للسادة المخبرين، والسادة المدرسين، والسادة الموظفين، فضلاً عن عدد كبير من الوزراء ووكلاء الوزارة وأساتذة الجامعات الإقليمية، وكانت أيضاً من الملابس المحببة إلى الزعيم المؤمن محمد أنور السادات والزعيم المزمن محمد حسنى مبارك. وفى سبعينيات القرن الماضى اجتاحت البلاد موجة «الشارلستون» ثم «رجل الفيل»، وهى بنطلونات ضيقة من أعلى وشديدة الاتساع من أسفل، أو متسعة للغاية على الامتداد مثل «الجيبة الحريمى». وتوسع المصريون فى استخدام هذه البنطلونات العجيبة رغم كل عيوبها الشكلية والعملية، وكان الناس والترزية يتنافسون فى توسيع رجل البنطلون حتى إن بعض هذه البنطلونات كانت تدخل الأماكن المختلفة قبل ظهور صاحبها! حيث كان من المعتاد مشاهدة «رفرفة» أحد البنطلونات فى مقهى أو مكان عام فيقول أحدهم إن فلاناً على وشك الوصول لأن هذه رجل بنطلونه الشارلستون!! وظهرت فى هذه الفترة نفسها موضة القمصان ذات الياقة الكبيرة جداً والتى تمتد فى بعض الأحيان إلى خارج كتفى الشخص صاحب القميص، وما زالت هذه الملابس تظهر حتى الآن فى أفلام قديمة للأخ محمود ياسين والأستاذ حسين فهمى والفنان سمير صبرى، فضلاً عن الإبداع الخاص فى ملابس الأستاذ زين العشماوى السبعينية والثمانينية، ولم ينجُ أحد من هذه الموضة الغريبة حتى أصحاب المكانة الاستثنائية مثل عبدالحليم ورشدى أباظة وأحمد رمزى وغيرهم. ولا تقتصر أزمات البنطلون المصرى على حقبة السبعينيات وما بعدها، ولكنها تعود إلى النصف الأول من القرن العشرين حيث كان الناس يحرصون على ارتداء بنطلون يصل من أعلى إلى ثلاثة أرباع مساحة القميص، وما زلنا نشاهد فى الأفلام القديمة بنطلونات الفنانين الكبار مثل حسين رياض وعبدالوارث عسر وزكى رستم واستيفان روستى وعبدالفتاح القصرى وغيرهم، ويصل بنطلون كل منهم إلى جيب القميص، بحيث يضطر الشخص لفك حزام البنطلون إذا أراد أن يأخذ شيئاً من جيب القميص! وفى أعقاب الصحوة الإسلامية الكبرى التى عاشتها مصر فى أواخر عهد الزعيم المؤمن توقف كل المصريين تقريباً عن استخدام المينى والميكروجيب فى ملابس النساء والفتيات، واعتلى الحجاب رؤوس الجميع، وانتهى عصر الفساتين والجيبات وبدأ عصر البنطلون الحريمى الذى ما زال سائداً حتى الآن. تخلصت النساء من الملابس العلمانية التى كانت تبرز عيوب سيقان وشعر كثيرات منهن، واتجهن إلى الملابس الإسلامية التى تخفى الشعر والسيقان. ولكن البنطلون النسائى تطور بسرعة البرق ليصبح مصدراً للفتنة أكثر من المينى جيب، وصارت الفتيات والنساء يرتدين بنطلونات ضيقة للغاية بحيث يبدو قوام الفتاة وكل تفاصيل جسدها شديدة الوضوح لكل من شاء الفحص أو المشاهدة أو التحرش، وتكفل البنطلون الحريمى اللاصق بإضفاء قدر كبير من الأنوثة الصادقة حيناً والكاذبة أحياناً على كل من ترتديه، ولم يتحقق للمجتمع المصرى أى قدر من الأخلاق الحميدة فى عهد الحجاب والنقاب والخمار وسائر الملابس الإسلامية، بل إن العكس هو الصحيح! البنطلون الحريمى اللاصق انتقل سريعاً من النساء إلى الشباب، وصار كل الشباب وقطاع كبير من الرجال والكهول يحرصون على استخدام هذا النوع من الملابس التى لا يعلم إلا لله كيف تدخل فى أجساد مستخدميها وكيف يخلعونها عند العودة لمنازلهم. ولم يكتف المصريون بهذا القدر من التطور فى شأن البنطلون، لكنهم اتجهوا فى الآونة الأخيرة إلى البنطلون الممزق الذى يتضاعف ثمنه كلما ازدادت أعداد وأحجام المساحات الممزقة!! وكان إخواننا الشباب قد اتجهوا قبل البنطلون الممزق إلى البنطلون الساقط الذى يتحتم أن يرتدى بوكسر أو شورت تحته حتى يتفادى ظهور مؤخرته إن كان يرغب فى عدم ظهورها! وللأسف الشديد تفنن إخواننا الإعلاميون المصريون فى مدح هذه الظاهرة إبان هوجة يناير 2011، وقالوا إن الشباب بتاع البنطلون الساقط هو الذى أنقذ مصر من الخراب وطرد حسنى مبارك من الحكم واختار الزعيم محمد مرسى رئيساً للبلاد والشباب! الملابس بطبيعة الحال مسألة شخصية، ولكن يجوز فقط مناقشة بعض جوانبها على سبيل الاستفسار وليس الوصاية. يمكن -مثلاً- أن تتساءل عن سبب تمزيق البنطلون دون سائر الملابس الأخرى، لماذا لا يلجأ مستخدمو وصانعو البنطلون الممزق إلى تمزيق القميص والجاكيت والبلوفر والسويتر والملابس الداخلية؟ وإن كانت هذه موضة عالمية فلماذا يستجيب لها كل هذا العدد الرهيب من الشباب دون فهم أو دراسة؟ هل الملابس الممزقة تمنح صاحبها المزيد من الوجاهة أو حرية الحركة أو أى شىء آخر خلاف العبط والحماقة؟ وهل الناس فى مصر قابلة للإيحاء إلى حد قبول أى موضة وأى شىء بصرف النظر عن جدواه أو ملاءمته لهم؟ وهل نحن شعب فاقد للهوية قابل للدمج الفورى فى ثقافات مجتمعية من أى نوع وفى أى اتجاه؟ وهل أدى غياب التوجهات المؤسسية وتناقضها الكامل فى كل عهود ما بعد الاستقلال فضلاً عن تدمير العدالة الاجتماعية بعد رحيل عبدالناصر إلى حالة من العدمية فى أوساط الأجيال المتعاقبة؟ وهل بوسع التنمية البشرية الشاملة وإصلاح التعليم استعادة هوية الشعب والشباب وإنقاذهم من العدمية والاغتراب؟ وهل تؤدى استعادة الهوية إلى تخلص إخواننا المصريين من البدلة والكرافتة والبنطلون والقميص والبلوفر (الخ) والعودة إلى الجلباب؟ وهل يعود البرقع والملاية اللف إلى النسوة المصريات بدلاً من البنطلون اللاصق والحجاب الأونطة؟ هل تدفعنا التنمية إلى لتقدم للخلف؟! يبقى فى هذا السياق سؤال واحد أتمنى معرفة إجابته من أى شخص فى أى بلد من بلدان العالم: «لماذا يخنق الناس أنفسهم بالكرافتة؟ وما جدوى هذه الكرافتة؟ وإن كانت تضفى نوعاً من الأناقة الشكلية فلماذا لا يرسمونها على القميص بدلاً من خنق الناس بها؟». وشكراً..