هذه هى الدورة الثالثة لاغتيال البرادعى، الأولى كانت مع إعلان عودته لمصر والدعوة لإجراء إصلاحات تنهى التوريث والتمديد، وما ترتب على ذلك من دور ملموس فى ثورة يناير، والثانية مع إعلانه الترشح ثم الانسحاب من رئاسة الجمهورية، والثالثة مع الاستقالة المثيرة للجدل من منصب نائب الرئيس للشئون الخارجية. خارطة الاتهامات والقائمين عليها تضم تحالفا غير مقصود بين ثلاثة أنواع من القاتلين، فلو رجعت لأرشيف الهجوم على الرجل ستجد المشاركين فى إهالة التراب على البرادعى ثلاثة أصناف؛ الأول نظام مبارك وأجهزته الأمنية ومندوبوها فى الصحف والفضائيات، وهذا النوع تركزت اتهاماته حول دور مزعوم للبرادعى فى مؤامرة دولية، تم بموجبها احتلال العراق، وبدء التفكير فى تقسيم الوطن العربى، ودأب هؤلاء على الهجوم الملح بتشكيلة من تهم الخيانة والعمالة حفلت بها الآلة الدعائية لنظام مبارك، وبقاياه. وخلال الدورتين الأوليين من القتل حققت آلة (اتهامات الخيانة) بعض مكاسبها، بتشويه الرجل عند قطاع عريض من «حزب الكنبة»، لكن سقوط مبارك، وفضح تحالف الفساد والقمع، ومن بعد ذلك فشل المجلس العسكرى فى الحكم لسنتين، ثم دور البرادعى فى الوقوف فى وجه دولة الإخوان، وإثبات صحة انتقاداته لسيناريو بناء الدولة على رمال التعصب والمغالبة، كل ذلك أزاح الآثار الجانبية لجرعات التشويه، وتمكنت الكتلة الثورية من إيضاح وتفنيد التشويه ومواقف القائمين عليه ومصالحهم. هذه الكتيبة تعيد الكرّة الآن بعد سيناريو الاستقالة المفاجئ بنفس الطريقة القديمة، (أحدهم رئيس تحرير مزمن لمطبوعة أدبية حكومية لعقود فى عصر مبارك لم نضبطه مرة ينادى بتداول حر للسلطة أو منع التوريث)، عادت اتهامات احتلال العراق الساذجة، المطعمة بخليط الجهل والتآمر، مع التلميح بدور (غير وطنى) فى استدعاء الغرب فى الأزمة، والتلميح بمطامع مالية فى الحكم. وهى اتهامات تحافظ على مستواها من السذاجة، لأن الغرب فاعل فى الأزمة من قبل سقوط مبارك، ومنصب البرادعى مسماه نائب الرئيس للشئون الخارجية، وبموجبه يلتقى ويتشاور ويتفاوض مع أطراف أجنبية بموافقة السلطة الحاكمة ووفق أجندتها، كما أن الأطراف المشاركة له فى الحكم تجتمع وتتفاوض وتكتب المقالات فى الصحف الأجنبية، وتوافق على صفقات المال السياسى بعد سقوط الإخوان. الإسلامجية وهم منقسمون بدورهم، فالسلفيون أسرى لتقسيم خرافى، (علمانى- إسلامى) ويرون فى الرجل رسولا للانحلال مهمته خلع الحجاب عن أمهاتهم، وبناتهم، تتصادم رؤية البرادعى للدولة الحديثة مع أوهامهم لإعادة بناء إمارة «تورابورا المصرية»، فيما اعتبره الإخوان فى البداية مطية للثورة على مبارك، وتحالفوا مع السلفيين فى مرحلة تالية للقضاء عليه، لضمان التمكين، ووراثة دولة مبارك القمعية تحت أقنعة الدين والشريعة. وهذا الفريق سقطت جرعاته القاتلة أيضاً، فأثبت عام من الحكم أن هناك فرقا بين الشعارات والأفعال، وقدمت الجماعة بفشلها واستبدادها خدمة تاريخية للعالم، بنهاية أوهام تعاطى الإسلام السياسى مع الدول الحديثة. وتكسرت سهام الإسلامجية قبيل الإجهاز على البرادعى. الحالمون وهم من ينتظرون المخلص، فى زمن لم يصلح للزعامة، لأنها تؤجل إعلان الفشل ولا تنهض بمجتمعات، ولا تضمن بناء مؤسسات حديثة، وتنتهى بموت صاحبها أو تحوله إلى مستبد، مات عبدالناصر، فمشى خلفه السادات «بأستيكة» على ما قام به، وعندما هرم كاسترو النبيل اكتشف فى خريف العمر أنه (كمخلص) لم يبن مؤسسات، فوّرث الحكم لأخيه راؤول. البرادعى فطن لذلك، فلا هو جيفارا، ولا كاسترو، ولا عبدالناصر، اكتفى بدور الملهم، وارتاح لنموذج غاندى. لكن هناك من يصر على الكسل الثورى، وينتظر من يجر أحلامه للمستقبل، وعندما يصدمهم الرجل وينسحب، ويخضع تحركاته السياسية لبنات أفكاره، ينقلب محبوه عليه بذات الرومانسية الثورية، وتعود تهم «خيانة الأحلام»، «وشق الصف الوطنى»، وهى تهم لا مكان لها فى قاموس السياسة الحديثة ولا يرددها إلا الهواة. البرادعى يصر على أنه مجرد فرد ترشح للرئاسة أو تولى منصبا بدرجة نائب رئيس وله الحق فى اتخاذ قرارات تتفق مع حساباته السياسية ونسقه القيمى الفردى، ومعلوماته الخاصة، فيما يصر محبوه على صهره فى كتلة أحلامهم. ليس بالضرورة أن تكون تلك الحسابات صحيحة، ولا المواقف وتوقيتاتها سليمة، لكن الانقلاب على الرجل واتهامه بالخيانة يعبر عن مراهقة سياسية، فيما تعكس الأحكام المطلقة عن نهاية البرادعى، سياسيا، انفعالا يصلح كنهاية لقصة من قصص حب المدارس، وليس تقييما سياسيا لرجل دولة، فلا السياسة ثابتة، ولا أحكامها أبدية. انتقد البرادعى والفظه وارفضه،...،...، من حقك، لكن حذار أن يدفعك الغضب إلى أن تفقد نزاهتك وتسهم فى التلويث والقتل المعنوى. لاتكن واحدا من القتلة.