بسقوط محمد مرسى تدخل جماعة الإخوان عصر محنة جديد، لكن هذه المرة محنة مختلفة، غير ناتجة فقط عن صدام عنيف مع السلطة، مثلما حدث طوال ثمانين عاماً، بل استيقظت على صدام عنيف مع المجتمع، وفقدان التنظيم لتعاطف واحتضان شعبى مكّنه من البقاء رغم تنكيل السلطة، وأخفى أطروحاته الكبرى التى تصطدم مع أسس الدولة الحديثة. هذه الأطروحات بدت عارية قبيحة فى لحظة السقوط. 1- طز «طز» الهاربة من لسان مهدى عاكف أواخر عهد مبارك أرجعتها منصات الجماعة الدعائية إلى عمره الثمانينى المتأخر، وإلى سوء نية لأعداء ما يُسمى بالمشروع الإسلامى، المتربصين بزلة لسان لرجل هرم، أضاقت السجون والسنون صدره. لكن عاماً من حكم مرسى انتهى بنداء للتنظيم الدولى، يناشد خيرت الشاطر سحب الرئيس من موقعه كى لا ينتهى مشروع الجماعة فى الدول الأخرى، وانتهى بتحريض علنى على انشقاق الجيش المصرى، وتهديد بتكوين جيش حر واستدعاء صريح لتدخل غربى، واستنساخ فضائية (مصر 25) فى نسخة أردنية اسمها «اليرموك» وأخرى فلسطينية تُدعى «الأقصى» تنقل تعليمات التنظيم المتهاوى إلى الأعضاء من وإلى رابعة العدوية. وعندما يقترب الرئيس من العزل يدعو أبناء الوطن للاقتتال ويقدم نفسه لأدبيات الجماعة كحسين جديد يضحى من أجل نصرتها، ويرتضى أن تسال دماؤه مثلما سالت دماء سيد قطب وحسن البنا، فتتماسك الجماعة ويقتتل الوطن. ثم يسقط الرئيس مثلما سقط كل حكم طائفى يتلاعب بالدين. بعد عام من حكم الإخوان نرى «طز فى مصر» عارية كما ولدتها الجماعة. 2- المصحف والقنبلة للباحث سكوت هيبارد ملاحظة عميقة، تقول إن استخدام الدين سياسياً تم بطريقتين؛ الأولى تتماهى مع الحداثة وتمهد لها، مثلما فعل محمد عبده، عندما اعتبر الدين محفزاً على التقدم وفق قيم التنمية الغربية، فحداثة أوروبا هى الإسلام الحقيقى بلا مسلمين، فيما تخلف الشرق فى زمنه يدل على (مسلمين بلا إسلام)، وهو المنهج الذى حاولت بعد ذلك مصر الناصرية استلهامه فى استخدام الدين كدافع للتصنيع والتعليم والمواطنة. أما الطريق الأخرى فهى استخدام الدين لتثبيت الأوضاع الراهنة للمجتمع، أو إضفاء قداسة على سلطة سياسية، وهو ما ينتج عنه سيادة حكم أغلبية دينية على حساب الأقليات، وتوترات طائفية يستفيد منها من فى الحكم. الطريقة الثانية (الكوميانالية) صبغت عصر الرئيس (المؤمن) عصر السادات وقامت عليها كلياً سلطة الإخوان، فبعد عام من حكم الإخوان اكتشفنا أن الأقباط متهمون بالتآمر على الدولة، والعلمانيين عملاء وكفرة، فيما اعتبر إعلام الجماعة وحلفائها الخلاص مرتبطاً بالقضاء على الطوائف الأخرى، من الليبراليين والعلمانيين والأقباط، والمفكرين، والشيعة، وكل من لا يحسب نفسه على المشروع الإسلامجى. وتتورط الجماعة ليس فقط فى التكفير، بل فى التمهيد المباشر لعمليات القتل بنشر عناوين منازل الخصوم، والدعوة لحصارها. وتتورط أكثر فتدشن مؤتمراً لجهاديين يحثون فيه على القتال لأسباب طائفية فى سوريا، ويفتى حلفاء الجماعة بقتل الشيعة، وعندما يُسحل أربعة على الهوية المذهبية فى قرية بالجيزة يخرج المتحدث الرسمى باسم الجماعة ليقول «ندين حادث قتل بعض ذوى الأفكار الغريبة». وعندما يسقط حكم التنظيم تتعرض الكنائس فى الصعيد لهجوم مسلح، ويقتل جهاديون أفراداً «عزل» فى تظاهرات سلمية 3- بقالة الصفقات معضلة الإسلامجية هى الرغبة فى إجبار من حولهم على التسليم بنماذجهم الجاهزة للحكم، وتتخذ النماذج أشكالاً ومسميات مختلفة، ولم تكن المجتمعات الحديثة على استعداد لفقدان مكتسباتها العصرية، من حقوق إنسان وتداول سلطة، ومؤسسات راسخة، من أجل أحلام فصيل بعينه، يريد فك وتركيب الدول الحديثة، فتصدت لأحلام الإسلامجية فى مناطق مختلفة. تركيا مثلاً، ولظروف عديدة ومعقدة، ابتعد الإسلامجية هناك عن أوهام الحكم الإسلامى النقى، استفادوا من تراث الطرق الصوفية، وحوّل حزب العدالة والتنمية قيم الصوفية إلى صفات محفزة على الإنتاج وطاردة للفساد، فالسياسى الصوفى الزاهد يبتعد عن الفساد، بينما تركوا لعبة الحكم والصراع السياسى والحزبى كما هى فى الغرب، نجحوا وحققوا معدلات عالية من الإنجاز الاقتصادى، لكن بقى هاجس أن الإسلاميين يحملون رسالة أخلاقية أعلى من غيرهم سبباً فى توترات. فى مصر بقى الإسلامجية على جمودهم، الجماعة تتحدث عن الشريعة وأستاذية العالم، وحكم الإسلام، والحدود بينما الواقع الاقتصادى والسياسى بلا إنجاز واحد. وأصبح للحكم الإسلامى معنى واحد فقط، هو بقاء عضو الجماعة فى السلطة. وعندما اقترب سقوط حكم مرسى، سارعت الجماعة كعادتها بعرض صفقة على الجيش، «تزيح مرسى وتدعم شخصية عسكرية مقابل أن يطلق الجيش يدها فى البرلمان والوزارة، ويترك التنظيم كما هو بغموضه وأمواله السرية». فإذا كان الإسلامجية الأتراك اندمجوا فى اللعبة الديمقراطية، فالإسلامجية هنا مارسوا الطغيان، وعندما سقطوا يضيعون فرص التحول الديمقراطى بالصفقات. وهو طرح يعيد إلى الأذهان كيف تأخرت الديمقراطية لعقود فى عهد حسنى مبارك بسبب صفقات الجماعة معه، والاتفاق على حصص الكراسى النيابية، والارتياح لمعادلة تقول: «الإسلاميون المتشددون هم بديل مبارك» وتطيل الفزاعة عمر النظام. ونكتشف بعد عام من حكم الإخوان، أن إسلامجية الجماعة عقبة أمام الديمقراطية. ها هى الجماعة بعد ثمانين عاماً فى الظل، وعام واحد فى الحكم عارية مطاردة تدخل عصر المحنة الأبدى.