عندها ساح سعد الزايط بائع الشاى فى الميدان كما يحلو له بقلب طروب وفم يصرخ بكل ما أوتى من قوة: «الشعب يريد إسقاط النظام». قفز كطفل صغير، والتقط قطعة من الحلوى كانت قد بقيت فى قعر جيب بنطاله من الأمس فرماها إلى فمه دفعة واحدة ثم راح يلوكها على مهل. دار فى كل أرجاء الميدان حتى كلت قدماه فدلف إلى شارع التحرير باحثا عن مكان بعيد عن الزحام. وقف أمام مقهى «المشربية» الذى امتلأ عن آخره. جالسون يحتسون الشاى على عجل، آخرون يشفطونه وهم واقفون على أقدام منهكة، ودخان الأراجيل ينبعث من جنبات المكان، والنادل يشق طريقه بين الأجساد بصعوبة وكأنه محصل فى أتوبيس ذاهب إلى إحدى المناطق الشعبية المزدحمة بالآدميين المتعبين. وقف يتأمل ما يجرى، ينظر فى الوجوه بقوة، حتى كاد الجالسون والواقفون يرتابون فيه. وقبل أن يمد أحدهم يده ويمسك به، دفع قدميه نحو ميدان «الفلكى» وعلى بابه برقت الفكرة فى رأسه، فقطع الطريق الخلفى نحو شارع طلعت حرب حتى وصل إلى ميدان الإسعاف، ثم دخل إلى حى «بولاق أبوالعلا» الأماكن التى فتح عينيه فوجدها أمامه تتحايل على الزمن، وتعيد حكى بطولات رجال ذهبوا من قرنين سطروها بدمائهم ضد جنود نابليون وهم يكافحون إلى جانب الحاج مصطفى البشتيلى تاجر الزيت الذى أرهق الفرنسيين هنا فى الحارات والعطوف المتعرجة الضيقة. الفكرة جاءته حين وجد طوابير تتكدس على باب المقهى انتظارا لدورها فى احتساء الشاى أو القهوة. وقال لنفسه: الشاى ويسكى الغلابة، وشعبنا لا يستغنى عنه. وفهم أن الأمر لن يكلفه شيئا. عين تقذف نارا تعتلى أنبوبة بوتاجاز فى مطبخ شقته الذى يرعى فيه النمل ويغنم من الطعام الرخيص، وعشرة كيلوات من السكر ونصف كيلو من الشاى، وبستلة مملوءة بالماء العذب، ودستتان من الأكواب الزجاجية، أو من البلاستيك الخفيف، وبضع ملاعق، وطاولة من أى خشب، وقبل كل هذا الابتسامات المشرقة التى تجذب زبائن يبحثون بأى شكل عن كوب من الشاى فى برد الشتاء، ولإعانة الأذهان الشاردة فى كل ما يجرى على أن تُحط خبرا به وتتغلب على الدهشة. فى الميدان تتوالى الأسئلة: متى سيتنحى؟ ما الذى سيجرى بعد رحيله؟ هل الجيش سيترك قائده يواجه مصيره؟ وهل هو حقا معنا؟ وهل يتربص بنا الإخوان؟ وكيف نواجه سيل الأكاذيب الذى ينهمر من شاشات وميكروفونات وسطور الإعلام الحكومى؟.. تحتاج الإجابة عن كل هذه الأسئلة أكوابا لا حصر لها من الشاى.