على يسار تمثال عمر مكرم بالضبط، وقف سعد الزايط أمام «نصبة الشاى» التى جهزها على عجل، يضع على رأسه طوقاً ورقياً كتب عليه «شاى التنحى»، لكن العرق وصهد الشمس وغبار الأقدام المحتشدة والبخار الصاعد من الأكواب الساخنة وزفير الزبائن أكل الحرف الأخير بمرور الشهور، فصار «شاى التنح»، وكان يقول لكل من يسأله: كتبتها يوم رحيل المخلوع، واليوم تدل على تلميذه الماسك فى الكرسى. كان سعد يجلس فى بيته بجيوب خاوية، ينظر إلى أولاده الضامرين بعينين مملوءتين بالحسرة والخوف، سهر الليل على ناصية الشارع مع سليم فهمان صديقه الدائم، ونام حتى قبيل العصر، وقام فزعاً على يد زوجته التى طالما أنبته لكسله وإهماله، كان يتوقع أن تقول له كالعادة: قم اسرح على رزق عيالك. لكنها قالت له: قم شوف البلد ولعت. وقام يفرك عينيه، نظر إلى الشاشة، فوجد جنود الأمن المركزى يجرون وشباباً يجرون وراءهم، ويتصاعد بين الأقدام دخان وتبدو نار فى الخلفية البعيدة تختلط ألسنتها بصياح «الشعب يريد إسقاط النظام». نظر حوله ليتأكد أنه هنا فى شقته، وأن الواقفة أمامه هى زوجته، ثم رمى بصره إلى النافذة ليتأكد أن النهار يغسل الدنيا وأنه ليس فى حلم ليل، خطف هاتفه المحمول ورن على فهمان، فجاءه صوت يقطعه سعال حاد: إنت نائم يا سعد. صحيت يا فهمان... أين أنت؟ فى شارع رمسيس. أسمع فرقعة عندك. ثورة يا كسول.. ثورة. سكت الزايط، ونظر إلى شاشة الهاتف فوجدها قد عادت إلى حالتها الأولى، أما شاشة التليفزيون فقد بقيت على حالها، صخب ونار ودخان وكر وفر، ومشهد جديد يتشكل أمام عينيه، طار له عقله، فخف جسده ووجد نفسه يندفع إلى الخارج، ويجرى ويجرى إلى أن وجد نفسه على تخوم ميدان التحرير. كانت الدماء التى سالت قد فتحت الطريق إلى قلب الميدان، فسار حتى وصل إلى الكعكة الحجرية، يحملق إلى وجوه الناس، وهو يسأل نفسه: من أين أتى هؤلاء؟ ولفت انتباه رجل فى منتصف عمره، كاد وجهه أن يأكل الزايط بعينيه، فأمسك به وقال: مخبر؟ والتفت الشباب حوله، وأمسكه بعضهم من كل جزء فى ثيابه، فدمعت عيناه وقال لهم: أنا مستغرب، أنظر إليكم طويلاً لأتأكد أنكم مصريون مثلى. فربت الرجل كتفه وقال للماسكين به: اتركوه إنه مثل كثيرين ظنوا أن الشعب قد مات. ( نكمل غداً)