«قد يصنع الحرمان مُعجِزاً وقد يصنع مجرماً».. قالها نجيب محفوظ ليصنع منها الشيخ المحروم من نعمة البصر منهجا لحياته، فصار مُعجِزا يتخطى حسه وألحانه حدود الزمان، فمثلما كان طه حسين يعبر عن فكر الشعب، اختار الشيخ إمام أن يكون فنانا يسرد حكايته. أولاد وبنات، شباب ومسنون، أجانب ومصريون، افترشوا جميعهم الأرض، منجذبة أنظارهم نحو شاشة عرض سُلطت عليها الأضواء من جهاز صغير، يشاهدون فى شغف قصة ذلك الرجل المنكفئ على عوده: «عم إمام.. عنده كلام ومسوّح فى بلاد الناس»، بدأ بها رفيق عمره الشاعر أحمد فؤاد نجم الفيلم التسجيلى (عندما واجه الشيخ إمام)، الذى عرض فى جاليرى مصر فى الزمالك ضمن فعاليات الاحتفال بالراحل فى 7 يونيو 1995. الفيلم يركز على العقبات التى تخطاها صاحب الجسد الضئيل والبصر المفقود والبصيرة النافذة. «من تانى شهر وقع».. يرد بها الشيخ إمام على الكاتبة صافى ناز كاظم فى حوار نادر تم تسجيله عام 1966، عن وقت فقدانه للبصر مثلما أخبرته أمه. والده الذى كان يجول شوارع قريته الصغيرة أبوالنمرس بمحافظة الجيزة حاملا زجاج المصابيح يبيعها طمعا فى رزق الله، لم يكن يعلم أن وليده سيكون نورا يضىء قلوب الثائرين: «يا مصر عودى زى زمان.. ندهة من الأزهر وأدان». تتعالى أصوات الحضور: «الله».. ردا على جلال صوت الرجل الذى دوت كلماته فى ميادين التحرير وقت الثورة. فكرة الفيلم حضرت بعد اندلاع ثورة يناير بستة أشهر. بدأ «أحمد المناويشى»، مخرج وسيناريست، العمل فى مشروعه بالتصوير فى دول أوربية مثل فرنسا، وبتجميع مواد أرشيفية من تليفزيونات بعض الدول العربية كالجزائر، ساعده فيها أحمد عطاالله معد الفيلم: «الأهم إن الناس تعرف زوايا جديدة عن مواقف الراجل رغم العقبات اللى قابلته».. يعلق المناويشى على هدفه الأول من فيلمه الذى لم يكتمل بعد. «لا يخفى على سيادتكم أن الموسيقيين فى مصر لا يريدون أن يشاركونى السجن».. يقولها «إمام» مجلجلا وخلفه صورة للرئيس عبدالناصر فتضج الصالة بالضحك. ب«ترابيزة» وكرسى إلى جوار العود كان الشيخ يصنع فرقة موسيقية وأحيانا دون ميكروفون عندما يقطع الأمن النور عن الأماكن التى كان يعقد فيها ندواته، «هكذا واجه». «يا سيدنا حرام أقرا قرآن وأنا بشرب حشيش».. رد بها الشاب الصغير «إمام» -المحب لصوت الشيخ محمد رفعت- على أحد الأثرياء عندما طالبه بالإنشاد فى حى الزمالك فى ليالى شهر الصيام مقابل 50 جنيها.. «أنت فقرى والجوع أولى بيك»، هكذا وصفه جاره فى تلك اللحظة، لكنه لم يكن يعلم أن مبادئ الرجل وتصالحه مع نفسه جعلت رؤوس أجانب الحى الراقى تتمايل مع كلماته الأثيرة: «البحر بيضحك ليه وأنا نازلة أدلع أملا القلل؟».