"إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم عرض الحائط، تحيى العقل ولا تميت القلب، تنمى وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث".. جاءت هذه الكلمات لتبلور الرؤية المعتدلة لأحد مفكري مصر في العصر الحديث، الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي قضى رحلة طويلة امتدت لما يقرب من سبعين عاما، لم يسقط خلالها سيفه الذي أشهره في وجه الظلم والاستبداد والتسلط. ذهب المسيري يبحث عن ضالته في دروب عدة، في بداية رحلته التحق بقطار الإخوان المسلمين، لكنه لم يستمر طويلاً ليترك "الجماعة" متجهاً - على النقيض- إلى أقصى اليسار وينضم إلى الحزب الشيوعي قائلا "أنا ماركسي على سنة الله ورسوله". ثم هجر الماركسية وأنفض عن ثوبه كل ما يتعلق بها، ليهتدي إلى حزب الوسط، لكنه لم يستقر، فالرجل لا يزال يبحث عن شيء ما لم يدركه الآخرون، ليتفرد المسيري في نهاية رحلته ويصبح في ذاته حزبًا وتيارا، مرجعيته الإنسان وغايته الإنسان. ''ليس مثقفاً ذلك الشخص الذي يجلس في برجه العاجي؛ ليقول ما لا يسمعه الناس، وإذا سمعوه لا يفهموه. المثقف مكانه في الشارع؛ يعيش بين الناس ويموت بينهم، يتعلم منهم ليعلمهم''، هذا ما جسّده مفكرنا الذي لم يلزم حدود صومعته بين الأورق والقلم، كغيره من المفكرين والمثقفين، بل زاحم المواطنين وشارك في تأسيس أولى الحركات الاحتجاجية المعارضة "كفاية"، وتولى منصب المنسق العام للحركة قبل وفاته بما يزيد عن عام؛ ليقود "مريض السرطان" المظاهرات المنددة بالفساد والاستبداد، ويصرخ في وجه النظام وكأنه ابن العشرين، ويهتف ضد مبارك الأب والابن، وقتما كان العشرات فقط من يجاهرون – حياءً - بمعارضة الأمير وولي العهد المنتظر. وضع المسيري بذور الحلم في نفوس من حوله؛ لكنه رحل قبل أن يراه متحققاً..عاش يحلم بالثورة التي تعيد حقيقة الإنسان المصري الذي تشوهت ملامحه بفعل نظام قام على التجهيل والاستبداد قرابة ثلاثين عامًا. وفجأة تحقق الحلم بطلوع شمس الخامس والعشرين من يناير الغضب، لكن المسيري كان قد رحل قبل ذلك التاريخ بما يزيد عن ثلاثين شهرًا. ولد عبد الوهاب المسيري في الثامن من أكتوبر 1938 بمحافظة البحيرة، ورحل بعد صراعٍ مع السرطان في الثالث من يوليو 2008 . وقدم العديد من الأعمال التي غذّى بها العقل الإنساني وخاطب فيها ضميره محاولاً أن يدفعه نحو حياةٍ أفضل، في مقدمة تلك الأعمال: "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار"، "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان"،"العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، فيما تأتي موسوعته عن الصهيونية " اليهود واليهودية والصهيونية" كواحدة من أهم الموسوعات التي تحتفي بها المعرفة الإنسانية.