للكتابة وسائل وأساليب عديدة، منها ما يتجه بالكلمات للهدف مباشرة، ومنها ما ينحرف يميناً ويساراً ويلف ويدور حتى لا تدرى ماذا يريد صاحبه، فهو فى البداية منحاز هنا وفى النهاية منحاز هناك، وهو فى مساحة ما مؤيد لهذا وفى مساحة أخرى مؤيد لعكسه، وتجده بذلك ناجحاً فى إرضاء كل الأطراف وإقناع الجميع بانحيازه لهم. وهناك كتابات قادرة على أن تتخيل مواقف وتنسبها للغير دون أن تسميهم، وتخلق من حالات فردية ظواهر عامة، وتنطلق محلقة بأفكار نقدية جذرية لهذه الآراء التى لا تعبر عن حالة ما فى المجتمع، وإنما تنسب هذه الكتابات لنفسها مواقف رداً على هذه الحالات الوهمية المختلقة. لقد تخيل البعض أن الآلاف من مؤيدى ثورة 30 يونيو يعتزمون الانطلاق لمطاردة أنصار جماعة الإخوان فى الشوارع وضربهم وسحلهم واعتقالهم وذويهم وتعذيبهم فى السجون والمعتقلات، وخوض حرب ضدهم وإسالة دمائهم. ومن بين هؤلاء كتب الإعلامى البارز باسم يوسف متحدثاً عما سماه ظاهرة فاشية تنمو فى مصر فى مواجهة فاشية الإخوان، ملمحاً لأنها ربما تتفوق عليها، ومعتبراً أن من يطالبون بمحاكمة قادة الإخوان عن أعمال العنف التى حرضوا عليها وعمليات القتل المسئولين عنها هم بمثابة من يسعى للانتقام وتصفية الحساب. وفى الحقيقة لا بد من التسجيل بداية أن مقال الإعلامى البارز جاء ماهراً وتمت صياغته بدقة شديدة، فهو منتقد للإخوان بعنف، ولمَ لا يفعل وباسم يوسف من أهم الإعلاميين الذين تصدوا للإخوان بعمق وبحراراة وإخلاص؟ وهو فى ذات الوقت مدافع عنهم باسم الحقوق والحريات التى يجب أن ينعم بها الجميع؛ الضحية والجلاد على حد سواء. وأنت لا تستطيع أن تختلف معه.. فهل يمكن أن ترفض حقوق الجلاد فى محاكمة عادلة؟ بالقطع لا يمكن، لأن المطلوب فعلاً هو محاكمة عادلة لكل متهم.. لكنك تستطيع أن تلتف وتخلط بين الحق فى العدالة والحق فى الإفلات بالجريمة الأصلية. مشكلة من اتهم الرافضين للمصالحة مع قادة الإخوان بالفاشية هو الخلط الحاصل لديهم فى معانى كلمة الإقصاء، وتصوراتهم الواهية فى تساوى الحقوق بين الديمقراطيين والفاشيين، وتصورهم القاصر عن معنى المصالحة والعدالة الانتقالية. كنت أتصور أن باسم يوسف هو آخر من يدافع عن حقوق مزعومة لجماعة مثل الإخوان تمثل الفاشية جوهر أفكارهم وأساس رؤاهم السياسية ومواقفهم من الآخر، ويرجع تصورى الذى تبين أنه خاطئ إلى أن باسم يوسف نفسه هو من حرّض على كراهية الإخوان والاستهزاء بهم والدعوة إلى الثورة عليهم. ولا أعتقد أنه (باسم) كان لا يدرك معانى الرسائل التى كان يبثها عبر برنامجه الرائع «البرنامج». وكلى ثقة أنه كان يعلم جيداً قيمة كل رسالة موجهة إلى الرأى العام ومعناها، وأخشى أن يكون الإعلامى الشاطر يسعى للتبرؤ مما كان يقوله، أو يسعى إلى غسل تاريخ وإعادة صياغته بموقف مضاد ومعاكس، ولأنه لا يستطيع فعل ذلك مباشرة فقد حرص على تأكيد مواقف سابقة له فى كلمات عابرة وسريعة، وهى فى الحقيقة مهارة من ضمن مهارات الكتابات الملتوية. والحقيقة أن المصالحة مع الآخر تستلزم، وبالأساس، مصارحة بالأخطاء والاعتراف بالمسئولية عنها، وفقاً للقانون وقواعد العدالة الناجزة، وليس من بين هذه المفاهيم المصالحة العرفية لغض الطرف عن جرائم ارتُكبت هنا أو هناك بمنطق «عفا الله عما سلف وحبايب». إذا كان البعض يقبل بوجود تنظيم فاشى عقيدته العنف فعليه بقبول جماعة الإخوان فى المشهد السياسى، وإذا كان البعض يعتبر استبعاد التنظيمات الفاشية والعناصر الفاشية من المشهد السياسى إقصاء «تبقى دى مشكلته». الإقصاء مصطلح يُستخدم لتوصيف سياسات تستهدف إبعاد القوى الديمقراطية (الشركاء) والانفراد بالحكم. وهنا جوهر الخلاف، فقد كان أمام جماعة الإخوان نموذجان لتختار أحدهما، أولهما النموذج التركى بإعادة التأهيل السياسى للحزب للاتساق مع الفكرة الديمقراطية مع إضافة النموذج المصرى بفصل الجماعة الدعوية عن الحزب السياسى، وثانيهما النموذج الجزائرى بترسيخ مفهوم العنف داخل الحزب والجماعة وخوض حرب طويلة ضد الشعب والمجتمع والدولة. ويبدو أن الجماعة قررت أن تنهج الطريق الثانى. لكل ما سبق لم أفهم قط تحريضك الواضح على فاشية الجماعة ثم مطالبتك بحماية حقهم فى الوجود ضمن عناصر المشهد المصرى، وأخشى أن ذلك الارتباك يرجع إلى خلط الأدوات؛ حيث استخدمت أدوات السياسة فى لعبة الإعلام، ورغبت فى استخدام أدوات إعلامية فى لعبة السياسة، وهو ما لا يجوز مش ممكن تكسب كل اللذات.. يعنى مش ممكن تبقى المحرض الأول على كراهية الإخوان قبل إسقاطهم.. والمحرض الأول على حبهم واحتضانهم بعد إسقاطهم، وبمعنى آخر: اللى ممكن تكسبه من الميديا ما ينفعش تكسبه فى السياسة. أعتقد أنك مطالب بإعلان موقف تجاه الجماعة وهل هى تنظيم ديمقراطى أم فاشى؟ وهل يمكن للمجتمعات الديمقراطية أن تستوعب وتحتضن التنظيمات الفاشية من دون مراجعة الأخيرة لمواقفها وتصحيحها وتعديلها للمسار الديمقراطى حتى تتواكب مع المجتمع المنشود ولا تصبح حديث نشاز فى وسطه؟ الجميع يطالب بتحقيق عادل وشفاف فى أحداث الحرس الجمهورى ومعها كل جرائم القتل التى ارتكبتها جماعة الإخوان قبل ثورة 30 يونيو وبعدها فى مختلف محافظات مصر، وإعلان نتائج التحقيقات على الرأى العام وتوفير ضمانات محاكمات عادلة، ولا أعتقد أن أحداً يختلف على ذلك. أستاذ باسم، القانون هو الأساس، والشعب المصرى شعب متحضر يرفض الظلم ويثور عليه مهما تأخر الزمان، وأنت مطالب بالاعتذار لأن مصر ليست جزيرة وشعبها ليس دموياً يسعى لتصفية بعضه، ولن تتحول أبداً إلى جزيرة تاريخية يمر عليها المسافرون ويقولون سلاماً.