(1) هذا هو الإسلام الذى يعرف أن (العدل) هو اسم من أسماء الله الحسنى، وأن الله (عز وجل) حرم الظلم على نفسه، فأوصانا بألا نتظالم، «وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ». هذا هو الإسلام الذى أسس نظاماً قضائياً محترماً يستقل فيه القضاء عن الخليفة نفسه رغم أن هذا الأخير هو الذى عينه، فلا ضير من أن يستدعيه إذا قدمت مظلمة ضده، ويناديه باسمه مجرداً كى يساويه بخصمه، بل ويحكم عليه أحياناً لو أخطأ، ويُعطى القاضى صكاً مفتوحاً كمرتب غير محدود حتى لا يميل إلى رشوة أو يحابى من أجل مال، ولم يكن للخليفة نفسه أن يراجعه فى حكمه، حتى إن الأمر استلزم آليات للرقابة على القضاة حتى لا يصبح الخليفة متحكماً فيهم، فأصبح هناك منصب قاضى القضاة الذى يراقب قضاة الأقاليم، ويحاسبهم بالعزل إن جاروا على أحد. هذا هو الإسلام الذى أمرنا بالعدل مع من نكرههم: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون»، وأكد أن الناس أمام القانون سواء بعيداً عن ديانتهم ومعتقداتهم؛ يقول النبى (عليه الصلاة والسلام): «مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَداً، أَوِ انْتَقَصَهُ حَقًّا، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئاً بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ؛ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هذا هو الإسلام الذى حذر من قول الزور وشهادة الزور، وعرف النظام القضائى وأسس له فى البدايات الأولى لتأسيس دولة الإسلام، وكانت صحيفة المدينة التى كتبها الرسول (صلى الله عليه وسلم) أول دستور يتعاهد الجميع على احترامه، فى تأسيس أصيل للدولة المدنية فى الإسلام، وقد «توافق» أهل المدينة على هذا الدستور الذى تم وضعه من اثنين وخمسين بنداً؛ خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُوِّن هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء، وُضع هذا الدستور فى السنة الأولى للهجرة، أى عام 623م، ولكن فى حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده. وقد عرف الإسلام المحاكم العسكرية، للفصل فى الأمور العسكرية بين الجنود وقادة الجيش، ولم يكن يحاكم فيها المدنيون تحت أى ظرف، وفى «أخبار القضاة» لوكيع بن خلف أن الخلافة العباسية هى أول من فعل ذلك بتنظيم إدارى متميز، وكان الخليفة المهدى قبل توليته للخلافة يفصل بنفسه بين خصومات ومنازعات عساكره، كما عين الحسنُ بن سهل -وزير المأمون- سعدَ بن إبراهيم على قضاء العساكر عام 201ه. كما عرف الإسلام القضاء المستعجل، ويكتب الماوردى فى «أدب القاضى»، نقلاً عن الشافعى أنه قال: «وإذا حضر مسافرون ومقيمون، فإن كان المسافرون قليلاً، فلا بأس أن يبدأ بهم، وأن يجعل لهم يوماً، بقدر ما لا يضرُّ بأهل البلد، وإن كثروا حتى ساوَوْا أهل البلد آساهم بهم، ولكلٍّ حقٌ، ففى تأخير المسافرين -إذا كانوا مسبوقين- إضرار بهم، لتأخُّرهم عن العود إلى أوطانهم، فإن قلُّوا ولم يكثروا قدَّمهم القاضى على المقيمين». (2) وأنا أكتب هذه السطور راجعت الكثير مما كتب فى التاريخ حول عظمة القضاء فى الإسلام، وما أورده المؤرخون من مختلف عصور الحضارة الإسلامية، وكان من الممكن أن أكتب عشرات أو مئات القصص التى ما إن تقرأها حتى تضرب كفاً بكف على عظمة هذه الحضارة التى ضيعها أبناؤها، وصار الجميع يتحدثون باسمها وباسم إقامة خلافتها من جديد زوراً وبهتاناً وبكثير من التجرؤ على تاريخ عظيم يقفون إلى جواره أقزاماً لا يكاد أحد يراهم، لكن هذه القصة وحدها كانت الأعجب والأكثر إثارة، وهى قصة صعبة التصديق، ولولا التأكيد عليها فى أكثر من مصدر، ربما كان أهمها «فتوح البلدان» للمازرى الذى عاش قريباً منها ومن حقبتها الزمنية فرواها، لم أكن لأنشرها، رغم انتشارها على سبيل التندر، دون النظر إلى ما تحويه من معانٍ. أستأذنكم الآن فى تصور هذه المشاهد درامياً، حيث التترات الآن مع موسيقى تصويرية حماسية، والأجواء عربية إسلامية قديمة، وعبارة ضخمة مكتوبة على الشاشة هى: «عن قصة حقيقية». (3) يبدأ الأمر بقتيبة بن مسلم.. قائد عسكرى محنك من قادة المسلمين، وأحد أعظم الفاتحين، وواحد من هؤلاء الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ». قتيبة الذى ولد فى العراق، سيعجب ببسالته فى القتال وإخلاصه قائد مهم هو المهلب بن أبى صفرة، فيرشحه لوالى العراق مع توصية شديدة ببسالة الرجل. أما والى العراق فهو أحد أكثر الشخصيات جدلاً فى التاريخ العربى والإسلامى، وهو الحجاج بن يوسف الثقفى، محفظ القرآن الذى وجد طريقه فى عالم السياسة، ولم يقف أمام طموحه أى شىء، حتى إنه ضرب الكعبة بالمنجنيق فى قتاله ضد عبدالله بن الزبير بن العوام، وقتله، وعلق جثته، حتى قالت أمه الصحابية الجليلة أسماء بنت أبى بكر، وهى تقف أمام الحجاج بعد أن رأت جثة ابنها: «لا يضير الشاةَ سلخها بعد ذبحها». وبنظرة ثاقبة يعرف بها من الذى يمكن أن يستخدمه ومن الذى يمكن أن يستبدله، يقرر الحجاج أن يصبح قتيبة بن مسلم والياً على خراسان، ويعطيه الإذن -بأمر الخليفة- أن ينطلق للفتوح، وتوسيع رقعة الإسلام. هنا ينطلق قتيبة بن مسلم لما يزيد على عشر سنوات فى فتوحات متواصلة، فيفتح بلاد الأتراك، وأعاد «طخارستان» و«بخارى» و«خوارزم» حتى يصل إلى «سمرقند»، بل وصل بفتوحه إلى أن توغل فى الصين نفسها، لكن من قال إن فى العمر ما يكفى؟ تقول المصادر إن قتيبة بن مسلم يقتل فى النهاية نتيجة صراع سياسى خرج فيه على الخليفة الجديد سليمان بن عبدالملك بن مروان، الذى كان يعتبره من رجال الحجاج بن يوسف، وهكذا تنتهى مشاهد قتيبة فى قصتنا، لكن أثره باقٍ لا سيما هناك فى سمرقند، ومن هنا تبدأ القصة.. (4) الآن سمرقند تحت راية الحكم الإسلامى، مع متغير بسيط لكنه عميق الأثر؛ متغير اسمه الخليفة الجديد، الذى يجلس فى دمشق الآن، ويحكم العالم من بيته، ويركب بغلته تاركاً رغد العيش كخليفة وأمير للمؤمنين، ويقسم أن يحكم بالعدل بين الناس ولو كان على حساب أسرته، ويرى طفلاً صغيراً شج رأس ابنه الصغير وهما يتصارعان على لعبة، فيهدئ من روعه بعد أن يرى أمه المرتعدة، ويعطيها من بيت مال المسلمين، وحين تعاتبه زوجته وتذكره أن ابنه هو المصاب يقول لها: لقد روعتموه! هذا الرجل اسمه عمر بن عبدالعزيز، وسيلقب بعد ذلك بخامس الخلفاء الراشدين، رغم أن فترة حكمه لم تزد على عامين! يهمس أهل سمرقند لأحد أبنائها بأن عمر بن عبدالعزيز رجل عادل، وأنه يجب أن يذهب إليه ليعرض قضية «بلده»، حيث عرف «الشعب» هناك أن المسلمين فى فتوحاتهم يخيرون الناس بين الدخول فى الإسلام والجزية والحرب، وحسبما يعرفون فلم يفعل معهم قتيبة بن مسلم هذا الأمر، بل فاجأهم فأسقطهم جميعاً، وحطم أصنامهم وأحرقها، وترك فيها والياً مسلماً، الغريب أن بعض كتب التاريخ تقول إنهم استأذنوه قبل الذهاب لأمير المؤمنين ليشكوه إليه، والأغرب أنه وافق. يذهب «بعضهم» إلى دمشق بعد رحلة شاقة، ويبحثون عن «قصر» أمير المؤمنين فيجدوه رجلاً بسيطاً يقعد فى داره ويقوم بإصلاح جدار بيته بالطين، وهم الذين ظنوه مثل هؤلاء الملوك الذين سمعوا عنهم، لكنهم الآن أمامه. يقول أحدهم: «لنا مظلمة»، ويحكى له الأمر، فيمسك عمر بن عبدالعزيز برقعة ويدون عليها أمراً بأن يعين والى المسلمين هناك قاضياً للنظر فى شكواهم، ويخبرهم أن القاضى سيسمع من الطرفين، وسيكون والى المسلمين هناك بديلاً عن قتيبة بن مسلم رحمه الله، وعند العودة، وبمجرد رؤية «خاتم» أمير المؤمنين صدر القرار بعقد المحاكمة، وكانت الأعجب والأروع. (5) تقول بعض كتب التاريخ إن اسمه جميع بن حاضر الباجى.. القاضى المكلف بالنظر فى «قضية القرن»، لو جاز التعبير، حيث «شعب» فى مواجهة «فاتح» بعد أن مات، والقاضى من نفس «دين» الفاتح، والحاكم هو من مثله الفاتح نفسه، والخصم الآن الذى يقف للدفاع عن نفسه هو والى سمرقند المسلم. عموماً.. يمكنك أن تتصور الأجواء ويضرب الجميع بتوقعاتهم على مائدة النميمة، أو يسخر كثيرون من هذا الموقف الذى قد يكون عبثياً فى ذهن كثير منهم. لكن هذا هو الجمل، وهذا هو الجمال، وسيفصل بينهما قاضٍ دخل متكئاً على طفل صغير، ومن المفترض أن قراره النهائى سيكون حكماً نافذاً لا استئناف فيه. يقول المدعى: «لم يمهلنا قتيبة بن مسلم، ولم يدعنا للإسلام، ولم يسألنا الجزية»، فينظر القاضى إلى الوالى «المدعى عليه»: «الحرب خدعة، وقد خشى قتيبة أن يتحصنوا فى أرضهم وأن يريق من الدماء ما إن استطاع الحصول عليه بغيرها منعه، ففعل»، فيرد القاضى: «ولكنك لم تفعل ما عاهدنا الناس عليه، فلم تدعهم للإسلام ولم تجعلهم يدفعون الجزية ولم تنذرهم». ويصدر الحكم.. يصدر لصالح سمرقند، بجلاء المسلمين عنها، واتباعهم لما اتفق عليه، وكأن شيئاً لم يحدث؛ فإما الإسلام أو الجزية أو الحرب. ينظر الجميع لبعضهم البعض غير مصدقين، وبعد صمت مطبق يبدأ أهل سمرقند فى التحدث، فقال أهل الصغد -قوم يسكنون بعض بلاد ما وراء النهر-: «بل نرضى بما كان، ولا نجدد حرباً»، وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأى: «قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأَمَّنُونا وأَمِنَّاهم، فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب، ولا ندرى لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا اجتلبنا عداوة فى المنازعة»، فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا.