انتصرت مصر على الظلام والاستبداد والعجز والفشل، واستطاعت أن تبرهن مرة أخرى على أنها قادرة على صنع التاريخ وإلهام العالم. استطاعت مصر أن تخلع رئيساً فاشلاً وعاجزاً، وأن تطيح بجماعته المتسلطة الظلامية من الحكم، وأن تخرج من نفق طويل ومعتم وعفن، بانتفاضة سلمية مبهرة، ولذلك فقد استحقت أن تحلم مجدداً بإدراك أهدافها المشروعة فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. لكن هذا الإنجاز التاريخى ما كان ليتحقق لولا دعم الجيش ومساندته، يظل الجيش مستودعاً أصيلاً للوطنية، وعماداً للدولة المصرية العريقة، ويبقى دائماً بمنزلة الجدار الأخير الذى تستند إليه الجماعة الوطنية وتثق فيه فى أحلك الظروف وأشدها ارتباكاً. لم يخب الظن فى الجيش يوماً، لقد صمت الجيش أحياناً، وضعف فى أحيان أخرى، بل ولم يسلم أيضاً من الهزيمة، لكنه عاد فى كل مرة أقوى وأشد بأساً وأكثر تصميماً، واستطاع دوماً أن يفى بما عليه وأكثر، ولم يخذل شعبه أبداً، ولم يتقاعس عن القيام بواجبه إزاءه. ثمة إشكال كبير فى الطريقة التى تم بها تنفيذ الإرادة الشعبية بإبعاد مرسى عن الحكم؛ فقد اعتبر بعض مؤيديه أنه أُزيح من موقعه بانقلاب عسكرى، بل إن بعضاً من خصومه، وآخرين ممن يعتقدون بفشله وسوء أدائه، يرون الأمر نفسه أيضاً. يسود اعتقاد فى الإعلام الغربى مثلاً أن الجيش انقلب على مرسى، هكذا كُتبت العناوين فى أكبر وسائل الإعلام الغربية، وهو الأمر الذى يمكن رصده أيضاً فى التعليقين الفظين الأمريكى والبريطانى على ما جرى قبل يومين. يريد البعض لنا أن نفهم أن ما جرى أمس الأول، الأربعاء، لم يكن سوى «انقلاب عسكرى»، ويستدل على ذلك بتدخل الجيش لحسم عملية إبعاد مرسى عن منصب الرئيس بالقوة، ويستشهد بعمليات الاعتقال والتوقيف والمنع من السفر ومداهمة بعض وسائل الإعلام وإيقافها عن العمل. يريد البعض أن يوحى لنا أن الجيش انقض على السلطة الشرعية التى يمثلها رئيس منتخب بطريقة ديمقراطية، ويذهب آخرون إلى مدى أبعد من ذلك بكثير؛ إذ يشبّهون مرسى بالزعيم التشيلى الراحل سلفادور الليندى. ما جرى فى مصر يوم الثالث من يوليو 2013 لم يكن انقلاباً عسكرياً، بل كان ثورة شعبية عارمة ضد حكم فاشل وغاشم، وقد دعت الثورة الجيش لمساندتها، ولم يخذلها كعادته. أما محمد مرسى فهو «عالم» وحده، وهو، بلا أى شك، ليس سلفادور الليندى، بل ولا يتقاطع معه فى أى قيمة أو مكرمة. لم يكن ما جرى انقلاباً عسكرياً؛ لأن الدعوة إلى الثورة على مرسى و«إخوانه» خرجت من الشعب وطليعته الشبابية، ولأن تلك الدعوة تبلورت واتخذت شكلاً مؤسسياً وطبيعة حركية ميدانية بعيداً عن أى سلطة أو إطار رسمى، ولأن حجم الغضب والاحتجاج كان أكبر من قدرة أى طرف على حشده أو بلورته أو توجيهه، ولأننا جميعاً سمعنا مئات الدعوات للجيش بالتدخل قبل أن يحاول التدخل مرة وأكثر لاحتواء الوضع ونزع فتيل الأزمة دون أن يجد معاونة من مؤسسة الرئاسة السابقة. ولن يكون ما جرى انقلاباً عسكرياً، لأن الشعب المصرى واعٍ وحريص على ثورته، ولأن الجيش يفهم أنه ليس بمقدوره أن يحكم، عوضاً عن كونه لا يمتلك الرغبة فى الحكم، ولأن شباب ثورة يناير لن يسمح أبداً بسرقة ثورته أو التلاعب بها. أما مرسى، فسيظل أبعد ما يكون عن سلفادور الليندى، حتى لو أرادت جماعته أن تضعه فى صورته أو تعيد إنتاج أسطورة ذلك الثائر التشيلى العظيم من خلال رجلها الباهت العاجز المتخبط. كان الليندى ثائراً مؤمناً بالديمقراطية وبالعدالة الاجتماعية وبالاستقلال الوطنى، وقد عمل على تجذير الديمقراطية فى بلاده، وانتصر للطبقات الفقيرة، وقام بتأميم المناجم والبنوك والمصالح الاقتصادية الأجنبية، وحرص على تطوير علاقات خارجية فعالة ومتوازنة. لكن الولاياتالمتحدة استشعرت الخطر منه، فتحالفت مع الجنرال أوجست بينوشيه لإطاحته بانقلاب عسكرى انتهى بموت الرئيس الشرعى المنتخب ديمقراطياً. ستسعى جماعة «الإخوان» إلى تصوير مرسى على أنه الليندى، وهى كذبة كبرى جديدة ستضاف إلى مسلسل أكاذيبها؛ إذ لن يصدق أحد أن مدعياً فارغاً تدعمه واشنطن بكل همة وبلا كلل، ويقود بلاده إلى التخبط والانقسام والضعف، ويبدد مصالحها الوطنية، وينقاد لجماعة سرية غير شرعية يمكن أن يُقارن بثائر عظيم مثل الليندى. مرسى ليس الليندى، والسيسى ليس بينوشيه، وما جرى فى مصر أمس الأول انتصار للموجة الثانية لثورة يناير وتصحيح لها وليس انقلاباً عسكرياً.