سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
جلال أمين: السعودية ودول خليجية تشارك فى اختيار رئيس مصر السلفيون «كانوا كافْيِين خيرهم شرهم» وظهورهم على الساحة السياسية كان مدبراً.. وتحول «الإخوان» شىء طبيعى
بعد أيام قلائل من نكسة «67»، سافر الدكتور جلال أمين إلى العراق. وذات صباح وهو يقف فى إحدى المحطات منتظرا -فى ترقب- «أتوبيسه» المتأخر، اقترب منه مواطن ذو ملامح عراقية، نظر إليه جيداً -وكأنه يتأكد من شىء ما، ثم غادر المكان. لاحظه الدكتور جلال، لكنه كان منشغلاً بتأخر «أتوبيسه». وعاد الرجل واقترب منه أكثر، وقال له بلهجة تقترب من اللهجة المصرية: «يا أخى، ما تشدوا حيلكم شوية»، ثم غادر المكان سريعاً. فى لحظة وصول «الأتوبيس»، صعد الدكتور جلال وجلس على مقعده، وفى ذهنه كلمات الرجل العراقى، التى ألقاها وغادر المكان، وهى -حسب قوله- تدل على تأثير مصر فى المواطن العربى، مثلما تؤثر فى مواطنيها. هذا المواطن العراقى -شأنه شأن العرب- يدرك أن مصر هى القلب النابض، وهى -كما كانت تقول الأدبيات فى الحقبة الناصرية- رمانة ميزان الأمة العربية، من الخليج إلى المحيط! ذهبت إليه فى مسكنه بالمعادى؛ لأسأله عن النظام القادم والرئيس المنتخب -المتوقع وصوله بعد أسابيع إلى القصر الجمهورى- وهل نحن باتجاه دولة دينية أم ديمقراطية؟ وإلى أى مدى تلعب «الأصابع الخارجية» حالياً، فى تحديد مسار رئيس مصر القادم؟ يقول: «باختصار، احنا بعد 11 فبراير -بعد تخلى مبارك عن السلطة- شربنا مقلب كبير». واعتدل فى مقعده، وقال: «مصر ياما أخدت مقالب فى تاريخها السياسى»، ونظر من نافذة مكتبه، وأكمل: «الظاهر إننا بختنا كده؛ ناخد مقلب ورا مقلب، وبرضه ما بنتعلمش». سألته: هل من الوارد أن يكون الرئيس القادم «مقلب»؟، فأجابنى: إذا لم تكف «الأصابع الخارجية» عن اللعب فى مصر فى المرحلة القادمة «هيبقى طبعاً مقلب!». ? قلت إن مصر تعرضت ل«مقلب» بعد 25 يناير؟ - لا.. «المقلب» كان بعد تخلى مبارك عن السلطة، والمقلب طبقاً للقاموس، هو «الخدعة أو المكيدة»، هذا ما حدث للمصريين بالفعل. «خدعة ومكيدة» لم نكتشفها إلا مؤخراً؛ فاتضح لنا -بعد التخلى- أن مالك السلطة لا يؤمن ولا يدين بالثورة، ثم أوهمونا أنهم مع «الثوار»، وقدموا لنا «تعظيم سلام»، وقالوا: «الجيش والشعب إيد واحدة»، وهم ليسوا كذلك. ? بعد 1952، عشنا مع رؤساء، كلٌّ منهم جاء بنظام يحكم به. هل سيتغير ذلك مستقبلاً؟ - ليس صحيحاً أن كل رئيس جاء بنظام مختلف، شخصية الرئيس لا تهم. صحيح.. البعض يعتبر «عبدالناصر» ونظامه استثناءً بعض الشىء، وإن كان استثناء جزئيا. ? ألم يفرض جمال عبدالناصر نظامه فى فترة حكمه؟ - لا.. ليس هو السبب فى فرضه، لكن السبب هو حالة العالم وقتها، وكذلك فى عهد «السادات» وأيضا «مبارك»، خصوصا السادات ومبارك، كانا شخصين ضعيفين سياسيا وليسا من النوع الذى يستطيع إقامة «نظام». والدليل على ذلك أن السادات نفسه ظل يخدم نظام «عبدالناصر» منذ أن أذاع «بيان الثورة» فى 23 يوليو، وحتى وفاة عبدالناصر. ? لكنه انقلب عليه فى مارس «1971»؟ - «ده صحيح». لكن عليك معرفة أن نفس الشخص خدم 20 عاماً ثم تحول وانقلب؛ هذا معناه أن هناك سبباً آخر لهذا التحول غير الشخص نفسه، لأن شخصية «السادات» لم تتغير. ? ماذا عن مبارك؟ - لا.. لم يكن له نظامٌ تستطيع الإشارة إليه. ? ذكرت أن النظام العالمى يفرض علينا شكل النظام الداخلى؟ - إلى حد كبير جداً. ? هل هذا معناه أن النظام ورئيسه القادم سيتأثر بالمعطيات الخارجية والنظام العالمى؟ - بالتأكيد. أنت تسأل عن شكل النظام القادم، وآلية عمل رئيسه المقبل، أيهما سيؤثر فى الآخر.. أليس كذلك؟ ? بلى. - الحقيقة، أنا أعترض على سؤالك؛ لأن النظام أصلاً لم يتغير. ? وثورة «25 يناير»؟ - نعم حدثت ثورة. لكننا نعرف أن النظام لم يتغير. انظر لمرشحى الرئاسة. و«بينى وبينك» إذا جاء أحمد شفيق رئيساً؛ هل تستطيع القول إن النظام تغير؟ بالطبع لا. وما ينطبق على «أحمد شفيق» ينطبق على «عمرو موسى» أيضا. فى النهاية أعتقد أن من الممكن تغير النظام وإن كانت لا توجد دلائل على هذا؛ لأن النظام العالمى نفسه يتغير. ? لكن تيار الإسلام السياسى ربما يكون أعطانا مؤشراً على شكل النظام القادم ورئيسه؟ - للأسف هذا التيار، من الشهور الماضية، يبدو أنه لا حول له ولا قوة، إلا فى مسائل غير جوهرية؛ مثل السياح يلبسون «بكينى» أم لا؟ هل يؤذن للصلاة داخل البرلمان أم لا؟ هل هذا ما نقصده أو نريده بتغير النظام؟ لا أعتقد. ? لكن الصورة على الساحة السياسية توحى بتغيير سيحدث؟ - أنا لا أنكر حدوث تغيير فى شكل الدولة المصرية، فى ظل التيار الإسلامى، من الممكن جداً. فمثلاً حرية الإبداع معرضة لفرض قيود عليها، وإن كنت أستبعد ذلك. ? وهل لهذا دلالة يريد قولها؟ - طبعاً. يريد القول: «المهم اللى فى القلب». وهذا تفسير راقٍ جداً من إنسان بسيط من العامة، أو قوله: «معلش ربنا هو اللى يتولاه»؛ هنا يريد أن يقول: «دورى فى الحياة ليس الحكم على الناس». وأنا أرى الجيل الجديد راقيا ومتحضرا حتى فى تدينه؛ فهناك بعض «المنتقبات» -مثلما ذكرت لى أستاذة جامعية- فى منتهى الرقى والذكاء والفهم؛ إذن هم ليسوا «منغلقين» بالضرورة. ? وكيف كانت مصر تحت الحكم الدينى؟ هل هذا حدث فى التاريخ؟ - «أنت ممكن تستخدم تعبيرات دينية، لكن المعانى بتكون مختلفة طبعاً». وجاءت عصور على مصر حُكمت فيها حكماً استخدم التعبير الدينى بشدة؛ من أيام الفراعنة وصولاً إلى أيام السادات. ? معنى ذلك أنك غير قلق من وصول التيار الدينى للحكم؟ - «لا طبعا، إزاي؟ عندى مخاوف، وإن كانت أقل من ناس كثيرة؛ لأننى أثق فى تحضر الشعب المصرى». ? هؤلاء الناس الكثيرون، لماذا يخافون من التيار الإسلامى، على الرغم من أن الشعب انتخبهم وجاء بهم إلى البرلمان، وبالتالى من حقهم الحكم، فهم الأغلبية؟ - «الأغلبية، ليست دائماً على صواب» هى خرافة صنعناها. «ونستون تشرشل» -رئيس وزراء بريطانيا الشهير- قال ذات مرة: «الديمقراطية، أقل النظم السياسية سوءًا». ? وما دلالة هذا؟ - الدلالة، أن من الممكن أن تأتى أغلبية «حمقاء» وتأخذ قرارات أكثر حمقاً. ومن المعروف أن سير جماهير الناس متجمعة فى الشوارع فإنها «تغلط»؛ أنت -مثلاً- تسير معهم «عاقلا»، ومع بداية هتافهم -حتى إن كان خطأ- يأخذك الحماس، وتهتف مثلهم. ? أيعنى هذا أن أى شعب يمكن أن يختار حُكما ليس على المستوى المطلوب؟ - بالطبع، وهذا ليس غريباً. ? كيف ترى جماعة الإخوان المسلمين، وهى تتحول من «مشاركة لا مغالبة» إلى «مغالبة لا مشاركة»؟ - ليس غريباً أيضاً، وأندهش من اندهاش البعض لذلك. ? أستطيع أن أفهم «لماذا اندهشوا؟»، لكن لماذا لم يندهش الدكتور جلال أمين؟ - لأن «الإخوان المسلمين» وكثيرا من السلفيين أحزاب سياسية؛ وفى السياسة يقال: «اللى تكسب به.. العب به»، وهؤلاء طبقوه. ? والدين؟ - الدين يحض على التعاون والمشاركة، أما السياسة فهى «مغالبة». «وطالما لعبوا سياسة، يبقى لازم يعملوا كده» -من وجهة نظرهم- ومحاولة إقناعهم بغير ذلك فاشلة؛ بدليل «اللجنة التأسيسية للدستور» وغيرها. ? هل سبب ذلك اعتبارهم أنهم أمام «لحظات فارقة» فى تاريخ الجماعة؟ - أظن ذلك. وإن كانت تلك اللحظات كثيرة فى حياتهم؛ فيوم مقتل الشيخ «حسن البنا»، وإعدام «عبدالناصر» ل«سيد قطب» ورجاله، كانت لحظات فارقة. ? «الليبرالية»، أمام ذلك، يراها البعض فى حالة تراجع؟ - «كلا، فالليبرالية تنمو حالياً». فشباب ميدان التحرير منذ «25 يناير» حتى «11 فبراير»، معظمهم ليبراليون، يميلون إلى اليسار. وانفتاح العالم يشجع على نمو الاتجاهات الليبرالية بشدة؛ وهى لا تتكون فقط بالأحزاب، لكن الليبرالية تتشكل بالثقافة والبحث والفن وغيرها من أوجه الإبداع. وأظن أن حزب الدكتور محمد البرادعى الجديد يبشر بالخير، وحزب «المصريين الأحرار» يبشر أيضاً بنتائج ممتازة، رغم عمره القصير. ? يسأل البعض عن الدور الإيرانى أو السعودى؛ ومحاولة إيجاد دور لهما فى اختيار الرئيس القادم لمصر؟ - أظن إيران بعيدة. لكن السعودية قريبة، والمؤكد أنها تلعب حاليا دورا فى ذلك. ? ولماذا إيران بعيدة، والسعودية قريبة؟ - لأن إيران قد لا يكون لديها إمكانية لذلك، لكن السعودية لها وكلاؤها فى مصر «من زمان»، ناهيك عن علاقة السعودية بالأمريكان، وعلاقة الأمريكان بالنظام المصرى -الذى لا يزال قائماً- من هنا تأتى السعودية ومعها، بالطبع، بعض دول الخليج. ? ولماذا الحرص على ذلك؟ - لأن الموضوع بالنسبة لهم «حياة أو موت». هم يدركون أن ما يحدث فى مصر يؤثر عليهم بشدة؛ من هنا، فإن إيران لا تلعب دوراً قوياً مثل السعودية؛ لأنها قد لا تتأثر بمجريات الأمور هنا. ? لكن السعودية ودول الخليج تتأثر؟ - بالطبع؛ لأن بقاء نُظُمِها يتوقف -إلى حد كبير- على حالة النظام فى مصر؛ فشعوبهم دائماً ما ينظرون إلى مصر على أنها هى القائدة والمعلمة والمُلهمة. ? لماذا زادت التساؤلات فى المرحلة الحالية؟ - هى ليست تساؤلات، وإنما حالة «تشرذم» وتفكك وضياع بعد «25 يناير»، أو بالتحديد بعد «11 فبراير»، سببُها؛ أننا -كما قلت لك- «أخدنا مقلب». ? بمناسبة «المقلب اللى شربناه»، كيف نخرج منه؟ - ومن أنا حتى أرد على هذا السؤال؟ الموضوع صعب. ? إلى هذه الدرجة؟ - نعم؛ لأن الشعب -على الرغم من قوته وإخلاصه وإصراره واستعداده للتضحية- «قليل الحيلة» أمام الأسلحة والمعتقلات وكشوف العذرية والضرب فى العينين، ومعها قوى وأموال خارجية، وفلول داخلية وأجهزة أمنية واستخباراتية.. أمام كل هذا، ماذا سيفعل الشعب؟ ومع ذلك الشباب يقولون: «لأ، هنواجه». ونحن -كمثقفين- نكتب ونقول ما نستطيع قوله، على شرط ألا نكذب فيما نكتبه أو فيما نقوله، وعند رؤية «مقلب»، نشير إليه ونقول: «احذروا، هنا مقلب». ? هل مصر تعرضت ل«مقالب» سابقة؟ - «ياااه، كتير». كتبت مقالاً مؤخراً أقول فيه: إننا تعرضنا إلى «مقلب» فى نكسة «67»، وعلى الرغم من كونه مدبرا من الخارج، فإن نظام «عبدالناصر» أسهم فى قسوة «المقلب»، وجاء السادات بعده ليعطينا «مقلبا» آخر. ? «برضه»؟ - «برضه»؛ فلم يستغل «حرب 73» كما يجب، وأضف إخراجه البطل الحقيقى لها ونفيه. ? تقصد الراحل «سعد الدين الشاذلى»؟ - تماما. هل هذا يُعقل؟ قائد يأتى لك بالنصر، فتطرده خارج البلاد، وتحاكمه غيابياً، وتسجنه عندما يأتى، أليس هذا «مقلبًا»؟، ثم يُطلق على نفسه «بطل الحرب والسلام». ? ألم يكن كذلك؟ - «كلا»، لم يكن بطلاً لا للحرب أو السلام. ? و«حرب أكتوبر»؟ - لم يكن صاحب البطولة فيها. ? و«معاهدة السلام»؟ - «طيب وهى دى بطولة؟»؛ السلام جاء بالتبعية للأمريكان؛ فالمعاهدة رضوخ لرغباتهم وللإسرائيليين. ? ألم يكن قرار الحرب «جريئا»؟ وكذلك اتفاقية «كامب ديفيد»؟ - «أصل مش كل جرأة تقول عليها بطولة. طيب ما الحرامى بيدخل بيتك بالليل وبيسرقك فى قمة الجرأة»، هل تعد ذلك بطولة؟ «مبارك» أيضاً كان «مقلبًا». ? لماذا؟ - بعد وصوله إلى الحكم أخرج المعتقلين السياسيين، واعتقدنا أنه سيأخذ طريقا مختلفا، لكن بعد فترة ظهر لنا أنه «مقلب»، «وإحنا -للأسف- عمالين نأخد مقالب واحد وراء التانى». وأنا لا أتكلم عن مصر فقط ؛ فالكثير من دول العالم الثالث تتعرض لمثل هذه «المقالب»؛ فهناك «صدام حسين» فى العراق، و«القذافى» فى ليبيا. ? يشتم البعض رائحة «تربيطات» ما، بين أطراف معينة حول المنصب الرئاسى. إلى أى مدى ترى ذلك صحيحاً؟ - «طبعاً، فيه تربيطات».. لأن من يريد الحكم عليه القيام بذلك. ? الرئيس القادم، هل تتوقع حدوث تعاون معه من التيار الدينى أو المجلس العسكرى، إذا جاء على غير رغبة أحدهما؟ - هذا يتوقف على معرفة إن كانت هناك أصابع خارجية تلعب فى مصر حاليا ومستقبلا، أم لا؟ فمن الممكن حدوث تعاون إذا تركَنا الخارج فى حالنا. ? وكيف ترى التيار الدينى السلفى فى الفترة الأخيرة؟ - هذا أيضاً جزءٌ من «المقلب»؛ لأنه «كان فى حاله وكافى خيره شره» -كما يُقال- حتى لحظة «تخلى مبارك»، كانوا مشغولين بالدعوة وأعمال الخير. فجأة «لعبوا سياسة» وهذا لا يحدث إلا بإيعاز من دولة أو جماعة أو نظام أو أشخاص بعينهم، حتى ندخل فى الدوامة والمتاهة التى نحن بصددها اليوم. ? هل أنت متفائل بالرئيس القادم وبنظامه؟ لا، لست متفائلاً. ولكننى متفائل دوماً بمصر.