خريطة تمتلئ بالطرق المعوجة، وعربة طائشة يقودها أكثر من صاحب هدف، بلا عجلة قيادة تحدد الاتجاه، وبلا مكابح تحكم الاندفاع، وبلا ناقل سرعة يختار لكل مرحلة ما يناسبها من أدوات الحركة.. هكذا تبدو صورة المشهدين السياسى والتاريخى للرحلة بين محطة جمهوريتنا الأولى وبين المحطة التى تليها، وهى محطة يتحدث عنها كل الناس دون أن يكون لها مكان واضح على خريطة التاريخ، بل ودون أن يتفق رفاق الرحلة على اسم هذه المحطة التى يسعون للوصول إليها بعربتهم الطائشة.. البعض يقول إنها الجمهورية الثانية، والبعض الآخر يقول إنها دولة الخلافة الثانية، والبعض الثالث يحدثنا عن دولة هلامية ليس لها معنى فى السياسة ولا فى التاريخ اسمها «الدولة الوطنية»، ثم هناك غير هذه الأسماء أسماء أخرى تتردد لم يبذل أصحابها جهداً يذكر فى الربط بين الاسم والمضمون، ولا بين مضمون الاسم -إن وُجِد- وبين مسارات الرحلة التاريخية للأمة المصرية التى تناسى البعض -أو هو يجهل- كونها صاحبة حقوق الملكية الفكرية لمفهوم «الدولة»! فى غياب هذا الربط بين الأسماء والمضامين، كما فى غياب الربط بين مضامين الأسماء وبين المسارات المتاحة والممكنة على خرائط التاريخ، يسهل دائماً خلط الأوراق بما يمَكِّن أصحاب الغرض من تحويل المسارات، بل ومن إرباك حركة السير فى الطرق المستقيمة فلا يصل إلى مبتغاه إلا من يجيد السير فى الطرق المُعوَجّة! وهكذا كان حال حركة التحول التى تشهدها مصر منذ اندلاع الثورة، إذ ازدحمت خرائط المرحلة بما اعوجت مساراته من الطرق، بل وبما التف من الطرق حول نفسه فما عاد يفضى إلى شىء، وإن أفضى إليه وجدنا أنفسنا عند نقطة البداية من جديد أو عند حافة الهاوية لا نعرف لماذا انتهينا إليها!! الطرق المعوجة رسم خرائطها عن وعى أو غير وعى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو فى كل الأحوال مسئول عنها وإن كان يريد استقامة الطريق؛ والعربة الطائشة دفعها على الطريق، بحسن نية أو سوء نية، شباب الثورة الذين يتحركون على الأرض دون آليات تحكم هذه الحركة، وهم فى كل الأحوال مسئولون عن كل ما تسببت فيه عربتهم الطائشة من هزائم الثورة وخسائرها، وإن كانوا يريدون فى أعماقهم انتصار الثورة ويسعون فى ضميرهم لأن يتحقق ما نرجوه من مكاسبها! وقع الجيش فى فخ الطرق المعوجة حين تنازل بغير منطق عن حصته فى الثورة بقبوله مشهد خروج الرئيس المخلوع من السلطة بإرادته لا بإرادة الجيش، مضحياً بهذا الفعل «النبيل» بمعظم ما كان يمكن أن يحظى به الجيش من شرعية أبدعت فى اقتناصها جماعات أخرى كان إسهامها فى رحيل مبارك أقل من سهم الجيش لو أنه كان قد أحسن قراءة اللحظة «التاريخية» وعمل على الإمساك بها؛ ثم هو ترك هذه الجماعات التى اقتنصت اللحظة التاريخية تدخله معها فى شراكة «سياسية» غير متكافئة، ففقد الجيش بسببها رأسماله الحقيقى وهو الضبط والربط وحسم الأمور، لا المناورات السياسية والقانونية، ومن ثم فقد الجيش رصيده الأصيل لدى قطاعات فاعلة -وإن لم تكن منظمة- هى المعبر الحقيقى عن مصالح الدولة المصرية؛ ثم أخطأ الجيش خطأه الفادح حين رسم خرائط الطريق وهو يتصور أن إبقاءه على النظام السياسى القديم هو دفاع عن نظام الحكم الجمهورى وعن شرعية يوليو، فضلاً عن كونه الضامن لبقاء الدولة المصرية؛ ولو أنه أدرك فى الوقت المناسب أن العكس تماماً هو الصحيح لوفر على نفسه وعلى الدولة ما انتهينا إليه من مخاطر إدارة الصراع عند حافة الهاوية! عربة الثورة الطائشة بدورها نزع عنها الشباب كل آليات التحكم فى حركتها حين حولوا الثورة إلى ثورة جيلية، وانشرحت صدورهم بكثرة الثناء فاستغنوا بأنفسهم عن غيرهم، حتى صاروا وحدهم بغير خبرة سياسية أو رؤية تاريخية فى مشهد معقد لا يملكون للتعامل معه إلا حماسهم وإلا طهارة مقاصدهم؛ فصاروا كالحملان على مائدة اللئام، يشاركون فى دعم مشاريع غير مشروع الثورة، بل هى مشاريع تناهض مشروع الثورة.. ربما ألتمس لهم بعض العذر، لكن مصر -لأنها حريصة عليهم- لا يمكنها أن تتعايش مع عربتهم الطائشة!