المشهد السياسى المصرى يسوده الارتباك وتسيطر عليه أجواء الفوضى، ويتخلل أجواءه المعقدة الإحساس بعدم اليقين! حكمان صحيحان للمحكمة الدستورية العليا فى توقيت قاتل، ونعنى قبل بداية انتخابات الرئاسة بيومين! الحكم الأول قضى بعدم دستورية قانون العزل السياسى الذى اعتبرناه فى مقال لنا نشر فى جريدة الأهرام بتاريخ 14/6/2012 -وهو يوم صدور الحكم نفسه- بأنه صورة معيبة من صور الانحراف التشريعى. وهذا الانحراف معناه تجاهل المبدأ الراسخ الذى يقضى بأن القاعدة القانونية تتسم بالعمومية والتجريد، وأنه لا يجوز للمشرع أن يفصل القانون تفصيلاً لكى يطبق على أشخاص بذواتهم. وكان هذا هو الخطأ القاتل الذى وقع فيه مجلس الشعب بمبادرة من أحد أعضائه من المحامين، الذين كان يعرف سلفاً أن القانون الذى تم إصداره فى 24 ساعة به عوار قانونى سيجعل الحكم بعدم دستوريته أمراً مقضياً. ولكن دفعته شهوة الظهور الإعلامى باعتباره بطل معركة تصفية «الفلول» إلى الاندفاع فى صياغة القانون بغير تبصر، ومن أسف أن يمر هذا القانون المعيب من اللجنة التشريعية التى يرأسها قاضٍ سابق خبير بالقانون، ولا يمكن أن يجهل أصول التشريع. أما الحكم الثانى الذى أبطل تشكيل مجلس الشعب بالنسبة لثلث أعضائه وانسحب الحكم بالبطلان إلى المجلس كله، فقد كان ضربة قاصمة لجماعة الإخوان المسلمين وحزبها «الحرية والعدالة»، التى مارست عمليات الاستحواذ المعيبة على مجمل المؤسسات السياسية. ولم يقنع المجلس «الإخوانى السلفى» بالهيمنة فقط على الغالبية العظمى للجان مجلسى الشعب والشورى، ولكنه إمعاناً فى ممارسة غرور قوة الأكثرية شكل اللجنة التأسيسية للدستور على هواه، وأقصى عامداً متعمداً عديداً من المؤسسات السياسية والاجتماعية والشخصيات العامة وفقهاء القانون الدستورى، مما دفع محكمة القضاء الإدارى إلى إلغائها. ومرة أخرى يصدر هذا المجلس الإخوانى السلفى قانوناً يصمم فيه على تقسيم المجتمع إلى طائفتين مدنية ودينية، ويختار الأعضاء على هواه. مما جعل عديداً من الأحزاب السياسية تنسحب من اللجنة، بعدما وضح الغرض وهو أن تضع اللجنة دستوراً إخوانياً سلفياً يتجاهل المطالب الرئيسية لجماهير الشعب، ويرضى غرور الإخوانيين والسلفيين، الذين رفعوا شعار تطبيق شرع الله، دون أن يشرحوا لأفراد المجتمع ما الذى يعنونه فعلاً بهذا الشعار. الحكم ببطلان مجلس الشعب أعاد التوازن فى الواقع إلى الحياة السياسية التى عاشت تحت التهديد الإخوانى السلفى باسم الأكثرية، الذى مورس فعلاً فى صورة تشريعات ما صدرت إلا لصالح جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية على تنوعها سواء منها المعتدلة أو تلك التى مارست الإرهاب الذى سقط من جرائه مئات الضحايا من المواطنين المصريين، ونعنى بذلك قانون العفو السياسى عن الجرائم التى ارتكبت منذ عشرات السنين، وعن العقوبات التى تم تطبيقها على مرتكبيها. ولسنا من أنصار نظرية المؤامرة التى يدعى الخبراء والمنظرون لها على شاشات التليفزيون وعلى صفحات الصحف، أن كل شىء تم بتدبير محكم من المجلس الأعلى للقوات المسلحة! مع أن الوقائع تشير إلى أن الأحزاب السياسية هى التى ضغطت على المجلس الأعلى لتغيير قواعد الانتخابات والجمع العبثى الذى تم بين القوائم والدوائر الفردية، مما أدى إلى أن تحكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان المجلس. وأياً ما كان الأمر، فقد أعلنت نتيجة الانتخابات التى أسفرت عن فوز الدكتور «محمد مرسى» مرشح حزب «الحرية والعدالة»، والذى أصبح أول رئيس جمهورية مصرى نتيجة انتخابه انتخاباً حراً فى انتخابات نزيهة وشفافة. ومهما كانت آراؤنا معارضة لجماعة «الإخوان المسلمين»، سواء قبل الثورة أو بعدها، على أساس وقوفنا بصلابة ضد مخطط الدولة الدينية، الذى هو المشروع الاستراتيجى للجماعة، فعلينا جميعاً نخبة وجماهير أن نحترم نتيجة الصندوق، وعلينا أن نأمل خيراً فى تصريح الدكتور «محمد مرسى» أنه سيكون رئيساً لكل المصريين. وأهمية الإذعان لحكم الصندوق فيه إرساء لقيمة رفيعة من قيم الديمقراطية، وهى قبول الخاسر للنتيجة، وعدم استعلاء الفائز على خصومه، وكأنه ملك الدنيا وما عليها! غير أنه تشاء التطورات المعقدة للمشهد السياسى المصرى أن ينتخب رئيس للجمهورية بلا أجنحة يطير بها! ونعنى بذلك دون صلاحيات سياسية واضحة ومحددة، ما عدا تلك التى نص عليها الإعلان الدستورى المكمل. غير أنه أهم من ذلك كله أن يأتى الدكتور «مرسى» رئيسا فى وقت تم فيه إبطال مجلس الشعب الإخوانى السلفى، مما يجعله فى الواقع معلقاً فى الهواء دون هيئة تشريعية تسنده فى ممارسة وظيفته، رئيسا للجمهورية. يأتى الرئيس الإخوانى وأمامه عقبات شتى عليه أن يعبرها، لعل أولها اللجنة التأسيسية للدستور التى تقرر أن تكون بالتعيين حتى تعبر عن مختلف طوائف الشعب المصرى، ثم معضلة وضع دستور يتوافق عليه المصريون، وأخيراً انتخابات جديدة لمجلس الشعب لا أحد يعرف نتائجها مقدماً. مرحباً برئيس الجمهورية المنتخب، ولعله يفى بوعده وأن يكون بالفعل رئيساً لكل المصريين، وأن ينفذ شعار الإخوان الشهير الذى أهدر فى التطبيق «مشاركة لا مغالبة»!