حين كنا صغارا، فى قرانا المسكينة فى صعيد مصر، كانت حفلات الزفاف تقام عصرا. العريس صبى لا يتجاوز 16 سنة، والعروس صبية لا تتجاوز 14 سنة، وحسب العرف السائد وقتها وربما لم يزل كان العريس ملزما أن يفض غشاء بكارة العروس «يدويا»، تعاونه فى ذلك الأم ومعها داية القرية (القابلة). حين ينتهى حفل الزفاف، تدخل العروس غرفتها ومعها الأم والداية، وبكلمات قليلة تتهيأ العروس لمصيرها الذى لم تختَر منه يوما واحدا، فيما يقف العريس خارج الغرفة. تخرج له الداية وتلف منديلا أبيض حول إصبعه، وتوصيه: «بالراحة على الصبية»، ثم تأتى إلينا الداية نحن الأطفال الأغبياء، وتأمرنا بأن نطرق باب الغرفة بقوة فور دخول العريس وغلق الباب. وهكذا يدخل العريس، وينغلق الباب، فتنهمر قبضاتنا الصغيرة على الباب بحماس وفرح، ونحن لا نعرف سبب فرحتنا أو سبب طرقاتنا، ولا نأبه للصرخات التى تنفلت خلسة ما بين طرقة وأخرى، ولا ندرك أن ضوضاءنا كانت مجرد تغطية على صرخات العروس التى لم تعد بكرا. ثوان قليلة وتخرج الداية، تفرد المنديل الأبيض الملطخ بالدم، تزيحنا جانبا، وتنطلق إلى المعازيم فى الشارع، تهتف بصوت خال من المحبة ينقصه اللحن: «اللى حضر وشرف وعقبال عنده»، فيمنحها المعازيم أرباع جنيهات فى المنديل المفرود على يدها، احتفالا بشرف العروس. والآن، تجلس مصر داخل غرفة عرسها، وإلى جوار سريرها يتبادلون صفقات، تفوح منها رائحة نفس المنديل الملطخ بالدم، لكن الباب ليس مغلقا، والأطفال فى بيوتهم وشوارعهم لا يطرقون شيئا سوى أسفلت الميادين، يصرخون بالهتافات والأغنيات، فيما يتفاوض السادة الكبار على اختيار العريس الذى سينهب العروس تحت غطاء أنها زوجة شرعية، وهى لم تختَر هذا ولا ذاك. حين كنا صغارا كانت الذبيحة الصامتة تحتمى بغرفتها، أما الآن فإن بث الصفقة والاغتصاب الشرعى يجرى على الهواء مباشرة، لكن الأطفال لا يزالون يصرخون ببهجة وحماس لمنح الشرعية للمغتصب، حركات سياسية سافرة الوجه تؤيد أحد الطرفين انتظارا لجائزتهما، ورجال العائلات الكبيرة يتفاوضون على الثمن، وأبرياء قليلون يصرون على أن العروس لا بد أن تعود إلى بيت أبيها، ومعازيم كثيرون لا يهمهم سوى انتهاء الحفل ليعودوا إلى غيطانهم أياً من كان العريس الفائز، وأمام الشاشات يتفرج العالم كله على انتهاك حرمة الأوطان. يريد المجلس العسكرى خروجا آمنا حتى إن أنكر ذلك وحق السيطرة على العروس حتى وهى فى بيت زوجها، ويريد الإخوان العروس خاضعة طائعة بشروطهم وحسب رؤيتهم، وتريد عائلة نظام مبارك، العمدة القديم، استمرار سلطانها على القرية؛ فالعروس من حقها، ولا يجوز -فى اعتقادهم- أن تذهب الصبية إلى غيرهم. والأزمة كلها فى المعازيم، هم أنفسهم الذين قالت عنهم أدبيات قريتنا: «العروسة للعريس والجرى للمتاعيس».