سافرت إلى «أبوظبى» يوم الاثنين الماضى (27 مايو) لحضور الندوة التى عقدها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تحت عنوان «مستقبل الثقافة العربية الإسلامية الوسطية». الندوة كانت خصبة وغنية سواء بموضوعاتها أم المشاركين فيها أم بعمق مناقشاتها، وليس ذلك بالأمر الغريب، فمركز الإمارات، تحت القيادة المتميزة لمديره د. جمال سند السويدى، اتخذ مكانه بسرعة فى الصف الأول لمراكز البحوث العربية، لأنه جمع بين الإمكانات المادية والتمويلية الكبيرة، وكفاءة وحسن الإدارة، والاعتماد على الكفاءات العلمية المناسبة، وبين توفير وضمان «المناخ» الملائم للبحث العلمى، الذى يفترض الانفتاح والروح النقدية والشجاعة فى طرح غير المألوف من الأفكار، وكلها أمور لم تكن دائماً سهلة أو متاحة فى المجتمعات الخليجية المحافظة بطبيعتها. قدم فى المؤتمر أربعة عشر بحثاً، غطت تيارات الفكر الإسلامى المختلفة، وموقعها من حركة النهضة العربية، وموقع تيارات التجديد الدينى فيها. وخصصت جلسة بأكملها لتحليل أفكار وتوجهات الإخوان المسلمين بالذات إزاء قضايا الحكم، فى حين خصصت الجلسة الأخيرة لتقييم التجربة الإسلامية على أرض الواقع تشريعياً وتنفيذياً وإعلامياً واقتصادياً. كان الموضوع الذى طلب منى معالجته هو «المصلحة السياسية فى سلوك الإخوان المسلمين»، فنوهت فى البداية بأن تحقيق المصالح هو الهدف الأساسى والمنطقى لأى سياسة، لدولة أو لحزب، أى إن البحث عن المصلحة أمر منطقى ومشروع تماماً، وهو ما عبر عنه بأوضح شكل الفيلسوف الإيطالى مكيافلّى فى القرن الخامس عشر، الذى تلخصت أفكاره فى تحقيق الأهداف السياسية والمصالح السياسية، وتبرر أى وسائل يمكن اتباعها لتحقيق تلك الأهداف. غير أن حساسية أو مغزى «المصلحة». إنما ترتبط بنسبتها إلى تنظيم دينى ودعوى مثل الإخوان المسلمين، ولذلك فإن علينا ابتداء أن نسلم بأن الإخوان هم أولاً وأخيراً كيان سياسى أو حزب سياسى بامتياز، ما يلزم معه نزع أى أوهام ترتبط بتوجهات مثالية أو مبدئية لديهم، أياً كانت شعاراتهم التقليدية المعلنة! من هذه الزاوية ارتبطت «المصلحية» بتاريخ الإخوان المسلمين وسلوكهم السياسى منذ لحظة مولدهم الأولى فى الإسماعيلية على يد الإمام حسن البنا، فلقد بدأ البنا دعوته من مسجده فى الإسماعيلية، الذى أنشأه بدعم من شركة قناة السويس البريطانية، التى ذكر البنا فى رسائله إلى والده -التى نشرت فيما بعد- أنه تسلم منهم ثمانمائة جنيه على دفعتين، وهى الرواية التى دققتها المصادر الموثقة! وإذا كان الإنجليز قد دعموا «حسن البنا» فى بداية دعوته، فقد استمر الأمريكيون (الذين ورثوا النفوذ البريطانى عقب الحرب العالمية الثانية) فى دعم الإخوان بعد حسن البنا، فى سياق معركتهم ضد «الشيوعية الدولية». وكما ذكرت من قبل، فإن علاقة الإخوان المصلحية بالأمريكان تأسست بشكل خاص من خلال القيادى الإخوانى البارز سعيد رمضان، الذى ساعده الأمريكيون على بناء المركز الإسلامى فى ميونخ بألمانيا، ليصير أحد أهم معاقل الإخوان فى أوروبا. من ناحية ثانية، فإن «المصلحية» السياسية الإخوانية تبدت أيضاً فى حقيقة أن «النشاط» السياسى كان هو المحور فى حركة الإخوان المسلمين، وابتعادهم عن القضايا الفكرية والثقافية العميقة للعالم الإسلامى، ما حفل به هذا العالم من إسهامات وإبداعات نظرية، ونظرة سريعة إلى أهم ما تحمله المكتبة العربية والإسلامية من فكر وإبداع، لا نجد اسماً إخوانياً لامعاً! فصاحب «على هامش السيرة» و«الشيخان» هو طه حسين، الليبرالى، وصاحب «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام» هو أحمد أمين، الليبرالى، وصاحب «محمد رسول الحرية» هو عبدالرحمن الشرقاوى، اليسارى، وصاحب «محمد رسول الله» محمد حسين هيكل، الليبرالى، وصاحب «العبقريات الإسلامية» هو العقاد، الليبرالى... إلخ. غير أن «المصلحية السياسية» للإخوان تبدت على الصعيد العملى فى أكثر من مظهر، كلها توحى بأن أهم رصيد للإخوان إنما يتمثل فى القطاعات الأكثر فقراً، والأكثر أمية فى الشعب المصرى، التى تتراوح نسبتها بين 30 و40% من السكان، والتى تجتهد الآلة الدعائية الانتخابية الإخوانية فى حشدها وتعبئتها فى المواسم الانتخابية، على نحو يجعل من الهدايا والعطايا التى تقدم للفقراء رشوه انتخابية، وليست عملاً خيرياً لوجه الله تعالى! ولكن هل هناك ما هو أكثر دلالة على «المصلحية السياسية»، أو قل الازدواجية الفجة فى سياسات الإخوان من تلك اللغة المزدوجة فى التعامل الراهن مع إسرائيل، ومع القضية الفلسطينية؟ فمع الإسرائيليين -ومن خلال الأمريكيين بالذات، وفى الغرف المغلقة- يبدى الإخوانيون ولاءهم وطاعتهم الكاملة، أما فى المؤتمرات الجماهيرية الحاشدة فالهتافات تتعالى متوعدة إسرائيل والصهيونية بالضرب والانتقام، وتدبج الخطب العصماء التى تعد الجماهير المتحمسة بالزحف إلى «القدس» بالملايين، وسط اللعنات على إسرائيل والكيان الصهيونى! وهل هناك أدل على هذه الحقيقة من حالة الأمان شبه المطلق التى تنعم بها إسرائيل الآن، فى حدودها مع قطاع غزة، التى تقطعها بين الفينة والأخرى طلقة هنا أو صاروخ هناك لتوحى وكأن هناك شيئاً يحدث؟! غير أن المفاجأة الثقيلة التى أعدها لنا الإخوان كانت هى الفشل الذريع الذى أبدوه فى إدارة شئون الدولة فى مصر، والذى فاق كل التوقعات، حيث فوجئ الجميع (وفوجئت أنا شخصياً برغم متابعتى للمسألة الإخوانية) بحالة الإفلاس التى بدوا عليها فعلياً (مثلما توقع الكثير من عقلائهم!)، التى تبدت ليس فقط فى غياب الرؤية أو السياسات (مشروع «النهضة»!)، وإنما أيضاً فى الافتقار إلى الكوادر والقيادات الملائمة. وإنه لأمر يثير الحزن والألم أن نقارن مثلاً بين آخر الحكومات فى عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك وبين الحكومة الإخوانية الحالية، لندرك أى انتكاسة تعانى منها اليوم مصر، وأى انحدار وصلنا إليه! كان ذلك هو مضمون البحث الذى قدمته فى ندوة أبوظبى، وكان محلا -بالطبع- لقبول أو رفض سواء من زملائى المتحدثين على المنصة (د. عبدالحميد الأنصارى، الأستاذ بجامعة قطر، ود. ثروت الخرباوى، ود. فخر أبوعواد، الأستاذ بالجامعة الإسلامية فى غزة، ود. حسن حنفى، أم من الحاضرين فى القاعة. تبقى ملاحظة طريفة (إذا جاز هنا هذا التعبير)، تتعلق بأستاذنا الجليل د. حسن حنفى، الذى كان غاضبا أشد الغضب مما اعتبره تحاملاً على الإخوان المسلمين، ثم عاد إلى القاهرة ليجد نفسه مطارداً بشائعة أن مجمع البحوث الإسلامية اعتبره خارجاً عن الدين، وصادر كتبه، ثم ثبت أن المسألة أهون من ذلك، وتتمثل فقط فى أن «المجمع» لم يوافق على كتاب واحد للدكتور حنفى وليس كل كتبه، ولم يعلن -والحمد لله- أن د. حنفى خارج عن الإسلام، كما تضمنت الشائعة!