وكأن إيران تأبى إلا أن تكون ملء السمع والبصر من المجتمع الدولي سواء عبر الأزمة السياسية مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي والخاصة بتخصيب اليورانيوم أو حضورها السينمائي في العالم وبشكل خاص في مهرجان "كان" الذي يعد أهم وأكبر مهرجانات السينما في العالم، والتي ستنتهي فعالياته مساء اليوم. وتشارك إيران في الدورة ال 66 للمهرجان الذي انطلق في جنوبفرنسا في 15 مايو الحالي، من خلال المخرج "أصغر فرهادي" بفيلمه "الماضي"، والذي أثار بعد عرضه علي شاشات المهرجان تصفيقا حادا وثناء نقديا وتفاؤلا بفوزه بإحدى جوائز المسابقة الرسمية، إن لم يفز بالسعفة الذهبية، وهي الجائزة الرئيسية للمهرجان وتمنح لأفضل فيلم. ولفت مخرج العمل الأنظار اليه منذ فترة ليست طويلة، اذ قدم فيلما سابقا هو "انفصال"، وحصل من خلاله على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي من أكاديمية العلوم والفنون السينمائية الأمريكية عام 2012. وجاء فيلم "الماضي"، والذي يعد أول فيلم يقوم "فرهادي" بتصويره خارج الأراضي الإيرانية وباللغة الفرنسية التي لا يعرفها المخرج، ليكون مفاجأة إضافية من حيث الاتقان والمستوى الفني. وتدور قصة الفيلم حول رحلة تقود البطل، "أحمد"، للسفر من طهران إلى باريس لاستكمال إجراءات طلاقه من زوجته الفرنسية السابقة "ماري"، وإذا به يكتشف أن ابنتها من زواج سابق تعاني مشكلة نفسية محيرة، حيث تعارض بشدة ارتباط والدتها بصديقها الجديد، وتسعى لابتكار الحيلة تلو الأخرى لفصلهما عن بعضهما البعض، في حين كانت علاقتها جيدة وأبوية مع "أحمد" أيام ارتباطه بوالدتها، ويظن "أحمد" أن في الأمر "سرا كبيرا"، ويقرر عدم مغادرة باريس قبل أن يكتشفه. وتبدو القصة في خطوطها الدرامية الرئيسية أقرب للإسقاط على العلاقة بين إيران ما قبل الثورة الإسلامية وما بعدها من جهة، وبين فرنسا من جهة أخرى (وهي الدولة التي صور بها الفيلم وهي مقر المهرجان أيضا)، فقد عاش ملهم وقائد الثورة الإيرانية "الأمام الخوميني" في فرنسا لسنوات طويلة، وعاد بعدها قائدا ومرشدا للدولة الإيرانية، لكن التحولات بعد الثورة أدت إلى العداء السياسي لكل ما هو غربي سواء كان فرنسيا أو أمريكيا. وجاء "أصغر فراهادي" في فيلمه ليجعل من بطله حائرا، فقد سافر مرة أخيرة الي باريس ليستكمل اجراءات الطلاق النهائي بينه وبين زوجته السابقة ،أو بين طهران وباريس، ولكن تفاصيل معقدة تتعلق بالأجيال الجديدة تجعله يتوقف، ويقدم فرهادي هنا نبوءة متعلقة بمستقبل قد يشهد تحولات عكسية. ولعل فيلمه السابق "انفصال" يدعم تلك الرؤية ويؤكد علي انشغال "فرهادي" بالمستقبل حيث يطرح قضية طلاق زوجين إيرانيين بينما تتقدم في مشهد النهاية بالفيلم ابنتهما التي تقف علي أبواب المراهقة حائرة بين أب محافظ عاجز عن مواكبة العالم وأم ترغب بالهجرة إلى عالم أكثر رحابة خارج إيران. التميز الذي بدا واضحا علي فيلم "الماضي" دفع بعض الصحف الفرنسية إلى إشعال معركة التكهنات، وراهنت بقولها "أن أيا من أعضاء لجنة التحكيم لن يكون بمقدوره إلا أن يفكر في رائعة فرهادي هذه، لحظة إسداء السعفة الذهبية". ولعل اللغة الفرنسية للفيلم ساهمت في تحمس النقاد الفرنسيين للعمل، فضلا عن قيام اثنين من الممثلين الفرنسيين ببطولته وهما "طاهر رحيم" و"بيرنس بيجو". "أصغر فرهادي" ليس الوحيد الذي واجه التحدي، فقد كرر تجربة المخرج الايراني الشهير عباس كياروستامي الذي قدم فيلم "صورة طبق الأصل" باللغة الفرنسية أيضا، ونجح مؤكدا مع مواطنه وزميله في إظهار أن السينما الإيرانية تملك روحا إنسانية وتستطيع التواصل والحصول على إعجاب بشري لا يضع في اعتباره الحدود الجغرافية أو الثقافية. وينافس "الماضي" أفلاما كبرى لمخرجين ذوي شهرة عالمية على السعفة الذهبية، منهم الأخوين كوين، وستيفن سودربرغ، وجيمس غراي. وبدأ "أصغر" ممارسة العمل السينمائي سنة 1986 بجمعية الشباب السينمائية في أصفهان، ومن 1986 حتى 2002 قام بعمل 6 أفلام قصيرة ومسلسلان للتلفيزيون الوطني الإيرانى، ولم يقتصر عمله على الإخراج ولكنه كتب السيناريو أيضا حتى أن أغلب أعماله التالية من تأليفه. وشهدعام 2002 أول بروز سينمائي له من خلال كتابة سيناريو فيلم "ارتفاع البريد" من إخراج إبراهيم حاتمي، والذي يعد أحد قامات السينما الإيرانية في تسعينات القرن الماضى، ويتناول الفيلم فكرة تداعيات اضطهاد العرب والمسلمين بعد تفجيرات 11 سبتمبر2001. وتوالت أعماله بعد ذلك، ففى عام 2003 أخرج أول فيلم روائي طويل له وهو "الرقص مع الغبار" والذي يتناول فيه شخصية نزار الذي يتعرض للعديد من الضغوط الاجتماعية والأخلاقية التي تجبره على تطليق زوجته لأن أمها لا تسلك السلوك القويم، ليهرب للصحراء لمعاونة رجل كهل في صيد الثعابين للتكسب منها وتسدد ما عليه من ديون وشارك هذا الفيلم في مهرجان الفجر بطهران وكذلك مهرجان موسكو لنفس العام. و في العام 2004 صدر له عمل يحمل اسم "المدينة الجميلة"، ويتحدث عن شاب يصدر ضده حكم بالإعدام وهو لايزال في السادسة عشر من عمره، وحصل الفيلم على العديد من الجوائز سواء من مهرجان "الفجر" السينمائي أو من مهرجان وارسو السينمائي الدولي. أما فيلمه الثالث الذي ظهر للنور عام 2006، وهو "الأربعاء الأخير"، فيسرد فترة من حياة سيدة ترسل من قبل شركة تنظيف لأحد المنازل وتفاجأ بالزوجة التي تشك في إخلاص زوجها لهذا تكلفها بمهمة تتبع العشيقة وحصل على جائزة هوجو الذهبية لمهرجان شيكاجو السينمائي الدولي. وقدم عام 2009 فيلما بعنوان "عن إيلى" والذي قال عنه الناقد السينمائي "ديفيد بوردويل" إنه تحفة فنية، وحصل على العديد من الجوائز منها جائزة الدب الفضى لأحسن مخرج في مهرجان برلين الدولي في دورته التاسعة والخمسين، كذلك أحسن فيلم في مهرجان تريبيكا السينمائي، ومثل الفيلم السينما الإيرانية في الأوسكار داخل فئة الأفلام غير الناطقة بالإنجليزية لكنه كان مجرد ترشيح. ويأتي أهم عمل له وهو "انفصال نادر وسيمين" الذي حصد 30 جائزة من مهرجانات متعددة منها جائزة الأوسكارلأحسن فيلم غير ناطق بالإنجليزية لعام 2012، بجانب جائزة الدب الذهبى لأحسن فيلم في مهرجان برلين السينمائي الدولي، ويعد أول فيلم إيرانى يحصل على الجائزتين. إضافة إلى جوائز الأداء التمثيلى فى مهرجان برلين ذاته، فكان من نصيب كل من البطل والبطلة جائزة الدب الفضى.