أكتب عن أيام وليالٍ عشناها أنا وأقرانى من أبناء الجيل ونحن فى عمر الطفولة، وتحديداً فى أواخر حقبة الخمسينات من القرن الماضى، وللحديث عن تلك الأيام يعترينى الكثير من الشجون، وهى التى نتندر بها فى زماننا هذا بعد أن هبت رياح التغيير وأطاحت بالتركيبة السكانية القديمة التى أثرت فى كثير من مناحى الحياة للمجتمع السكندرى، فكان ما كان من التدهور والتراجع والانحطاط الذى طال البشر والحجر، والانسحاب الخجول لثقافة الجمال والذوق والفنون والإبداع التى تربت وترعرعت فى الحضن الدافئ لعروس البحر، وذلك أمام شراسة هجوم ثقافة القبح التى خرجت من أحشاء العشوائيات وإفرازاتها من العنف والبلطجة والانحراف عن السلوك القويم والتطرف والكراهية وعدم قبول الآخر، ومن هذا المنطلق فإن من أروع ظواهر ووقائع تلك المرحلة هو ذلك التنوع والتعددية التى جمعتنا مع كل الأطياف على اختلاف العقائد والملل والأديان والجنسيات التى تعايشنا معها فى ود وانسجام وتوافق وتآلف وتحاب دون أى حساسيات كما تعلمناها من الأجداد والآباء ونشأنا عليها. أما جيراننا فهذه أسرة يهودية كانت تقيم معنا فى نفس المنزل بشارع النقراشى -الميدان حالياً- مكونة من الأم التى كنا نناديها (طنط) «أم روجينا» -وهو اسم الابنة الكبرى- وأخواتها «استير» و«روبير» و«رحمين»، وأذكر عم «يعقوب اليهودى» صانع وبائع الأحذية الحريمى فى نفس الشارع، وأيضاً من اليهود السكندريين الطبيب الشهير «ديفيد منشا آزر» وعيادته بشارع التتويج -محمد كريم حالياً- وبه سينما «التتويج» التى تحولت إلى جراج للسيارات ثم أصبحت برجا سكنيا، وهى نفس الحالة التى أصابت العديد من دور السينما الشهيرة ومنها على سبيل المثال سينما «رأس التين»، و«الأنفوشى» بمنطقة بحرى، وأيضاً سينما «ريكس» و«كونكورد» بشارع الغرفة التجارية، وسينما «كوزمو» بالمنشية، وسينما «وداد» بشارع أنسطاسى -الجزائر حالياً- وسينما «ماجيستيك» بشارع سعد زغلول، وسينما «الشرق» بشارع البورصة القديمة، وأيضاً سينما «ليدو» وسينما «بارك» بشارع شكور، وسينما «الهمبرا» بشارع صفية زغلول التى شدت «أم كلثوم» على خشبة مسرحها أروع أغانيها من كل عام، وكلها تقع فى منطقة محطة الرمل، الامتداد الجغرافى الطبيعى لحى الجمرك العريق. وبالعودة لاستكمال ما أسعفتنى به الذاكرة من أسماء بعض من عاشرناهم من الأجانب، أذكر منهم من اليونان: «زوتس» البقال ومحله الواقع بين شارعى سوق الطباخين ووكالة الليمون، والخواجة «جورجى» صاحب مخبز العيش الشامى، والخواجة «يورغو» المجاور لمنزلنا فى شارع ابن حنبل المتفرع من الميدان، ومعه شقيقته «ألكسندرا» وبناتها «أرينا» و«ماريكا» و«أتينا»، والخواجة «خارالمبو» صاحب مصنع الحلاوة الطحينية بشارع سوق الطباخين وغيرهم كثير، ومن الأتراك «ست الهانم»، أم حكمت، وابنتها «حكمت» -فاتنة الحى. ومن الأرمن، وهم ممن تخصصوا فى صناعة وبيع نوع خاص من الأحذية يعرف بالمانتوفلى، وقد تمركزوا فى شارع السكة الجديدة -الباب الأخضر حاليا- والمتفرع من شارع النصر الممتد من شارع البحرية أمام باب الجمرك رقم (10)، وعنده تم إنشاء محطة الركاب البحرية فى عهد الثورة لينتهى عند ميدان أحمد عرابى الذى يزينه تمثال محمد على باشا على صهوة جواده، وقد تم تجديد شارع النصر بالكامل ليليق باستقبال الزائرين من السائحين ومرور العديد من مواكب الرؤساء الأجانب كما شاهدناهم فى صحبة الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر».