ونتأمل كيف انتفض يسار أمريكا اللاتينية عبر موجة شعبوية متخلصة من أى أيديولوجيا سوى شعار العدل الاجتماعى وخدمة الفقراء ورفع مستواهم عبر تأميمات متلاحقة وكل ذلك تغلفه نزعة رومانسية وشاعرية اجتذبت عواطف الكثيرين. ويمكن القول إن أمريكا اللاتينية قد بدأت أزمتها الحقيقية فى العصر الحديث منذ إعلان «مبدأ مونرو» الذى صرح به الرئيس الأمريكى جيمس مونرو عام 1823 معلناً أن أمريكا لن تسمح بأى تدخل فى القارة الأمريكية بكاملها من جانب أى دولة خارجها. وكان «مونرو» يقصد تحديداً أى تدخل أوروبى، خاصة التدخل الإسبانى والبرتغالى، باعتبارهما دولتين استعمرتا دولاً هناك. وقد مس ذلك التصريح جرحاً عميقاً فى المشاعر اللاتينية، الأمر الذى تعزز بالسيطرة الأمريكية على اقتصاديات المنطقة وتجاهل حقوق السكان الأصليين والفقراء وهو الأمر الذى أتاح للقوى اليسارية الشعبوية أن تفتح مظلتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى غمار نضالها التحررى لتشمل السكان الأصليين والمناضلين ضد استبداد الاحتكارات الأمريكية والفقراء والمشتاقين للعدل الاجتماعى، واتسعت هذه المظلة لتشمل صغار المهنيين والفئات الدنيا من الطبقة الوسطى وحتى رجال الدين الذين أشهروا «لاهوت التحرير» كسلاح دينى يحمى مصالح الفقراء وقضية التحرر الوطنى. وكانت هناك كوبا التى تعرضت لحصار أمريكى شرس واستطاعت رغم كونها دولة صغيرة (11 مليون نسمة) الصمود فى وجه الحصار منذ 1963 وتقدمت فى مجالات عديدة واعتادت على حشد شعبها وصموده حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى لتصبح أيقونة ثورية تلهم كل يسار أمريكا اللاتينية. ولعل النهاية المأساوية لتجربة الليندى وصموده الأسطورى كانت هى أيضاً إلهاماً للشعوبيين للنهوض، وأرجو من القارئ أن يتأمل تجربتى الشخصية مع أهم زعيمين ليسار شيلى الشاعر بابلو نيرودا (ماركسى) وسلفادور الليندى (اشتراكى)، كنا معاً فى اجتماع لرئاسة المجلس العالمى للسلام فى لاهتى (فنلندا) وفيما نتجول فى ساحة ضخمة يكسوها الجليد أبديت دهشتى من الاتساع الشديد للميدان، فقال الليندى «هذه بحيرة متجمدة»، وأبديت فزعاً «وماذا لو انهارت قطعة جليد وسقطنا فيها؟»، فأجاب بهدوء «لو كان هناك خطر لوضعت الحكومة لوحة تحذير»، فقلت مستنكراً «يعنى نموت وبعدين نلوم الحكومة؟»، ورد الليندى الهادئ دوماً «أنت لا تستطيع اكتشاف أخطاء الحكام إلا إذا عانيت منها»، وهنا انفجر نيرودا «أيها الاشتراكى اللذيذ.. أى أفكار خرقاء هذه»، وضحكنا جميعاً. وبعدها بسنوات أصبح الليندى رئيساً عبر تحالف يسارى واسع. وللأسف كان الجميع يحاربونه أمريكا واليمين والوسط وحتى كوبا التى كانت تتهمه بأنه مُهادن وضعيف وشكلت بأموالها تنظيماً قال إنه يسارى حقيقى لكنه كان فاشياً حقيقياً (ملابس سوداء وأقنعة سوداء وعصى غليظة يؤدبون بها أنصار الحكومة ويقودون ما سموه مظاهرات الجوع متخذين اسم «موبر»). وعقدت رئاسة المجلس العالمى للسلام اجتماعاً فى شيلى بدعوة من الليندى. وأثناء المؤتمر دُعيت مجموعة محدودة من الأعضاء اليساريين لاجتماع وكنت منهم.. الليندى بالمنصة وإلى يمينه مباشرة بينوشيه بنظارة سوداء داكنة (هو الذى قاد الانقلاب العسكرى ضد الليندى وقتله)، وهناك عديد من قيادات الحكومة على المنصة، أما نيرودا فقد جلس إلى جوارى وسأل أحد الحاضرين وهو يشير إلى بينوشيه وحشد الضباط الكبار على المنصة «هل تثق فى هؤلاء؟» (وكان كل من يعرف ما يجرى يعرف أن بينوشيه عميل أمريكى فاشى النزعة وأنه يستعد للانقلاب)، فرد الليندى بهدوء «لقد أقسموا يمين الولاء»، ورد الرجل «وهل تثق فى ذلك؟»، فقال الليندى «أى هول يحل بالعالم إذا لم يفِ الرجال بالقسم»، وهمس نيرودا فى أذنى «هو رئيس عظيم ولكن أحمق». وبعدها كان الانقلاب بالاتفاق مع أمريكا وهربت جماعة ال«موبر» مدعية الثورية وتفرق الأنصار وندمت كوبا ولم يبقَ سوى الليندى وحيداً.. لبس خوذة عسكرية وأمسك رشاشاً وقاوم.. وهمس فى أذنه واحد من أنصاره «أنت وحدك»، فقال «لقد انتخبنى الشعب وحدى ولا بأس من أن أقاتل وحدى دفاعاً عن النظام». هذه هى الثورية فمن أين أتت الرومانسية؟ من بابلو نيرودا، الشاعر الرومانسى الرقيق الذى وصف حلم ثورة الفقراء المقبلة: «مثل ابتسامة الطفل فى القلب اليسارى».. وعندما دعاه رفاقه للهجرة هروباً من السجن قال «إن عظامى مغروسة فى هذا الوطن». وهاجمه أحد رفاقه القدامى فقال «البعض تنطلق كلماته كأفعى قد تلدغه هو»، وقال «اسألوا لماذا تنتحر أوراق الشجر عندما يأتيها الاصفرار؟».. إنها رومانسية استمدوها من لويس كارلوس بريستوس» الثائر البرازيلى القديم الذى قاد كتيبة من الثوار وعاشوا مع الفلاحين الفقراء يستدعونهم إلى الثورة حتى سماه الفلاحون «فارس الأمل»، كما وصفه المؤرخ جورج أمادو فى كتاب عنه وفيما يطارده الجيش وكان الفجر يقترب وقف بحصانه على قمة جبل ويستحثه رجاله قائلين إنهم يقتربون فقال «هذا الحصان يحارب ومن حقه أن يشاهد الشمس وهى تشرق على بلاده. وهكذا امتزجت الثورة الشعبوية بالرومانسية واكتشف هذا الصنف الجديد من اليسار مساراً افترش كل الدول اللاتينية، لكن الرومانسية قد لا تصلح والشعوبية قد تفقد بريقها تحت ضغوط متآمرة داخلية وخارجية وعجز عن الأداء الصحيح أو الضرورى. ويبقى أن أذكركم بجماعة «موبر» التى سمت فاشتيها بالثورة واتهمت الثوريين الحقيقيين بأنهم انتهازيون وخونة. ثم فروا أمام أول لطمة وتحالفوا حتى مع الفاشى بينوشيه.. ألا يذكركم ذلك بمن يسمون أنفسهم «اشتراكيين ثوريين» ويتحالفون مع الإخوان الفاشيين ويقبضون ثمن جرائمهم؟ فلا تسألوهم «لماذا؟» ولكن «بكم بعتم أنفسكم؟».. أرأيتم أن ثمة يساراً حقيقياً ويساراً زائفاً؟!