سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«بلادى»:اجلس مكان نجيب محفوظ.. وادفع 35 جنيهاً من فوق يظهر تمثالا عبدالمنعم رياض وعمر مكرم.. السيارات صغيرة الحجم.. البشر يروحون ويجيئون.. الصورة طلعت حلوة
قامت السيدة عطية الله من نومها، الساعة تشير لبعد الفجر بقليل، نجح الصباح فى صراعه اليومى مع الليل فنشر أولى نسمات الضياء. دخلت لغرفة النوم، قالت لزوجها «قوم، يا نجيب قوم»، لم يستغرق نجيب كثيراً فى الاستيقاظ، تعود كالشمس أن يشرقا فى نفس الموعد، لم يؤخره عن ميعاد الصحو سفر أو مرض. يعشق الروتين، ويجيد تطويعه باستمتاع. ارتدى ملابسه، هبط من منزله الكائن على كورنيش العجوزة. شخص ببصره إلى النيل الممتد من أمامه. عميق، مقبض، ملىء بالأسرار، لكنه صامت، يبحث «نجيب» عن الصخب، عن الناس، عن الحياة. اشترى الجرائد من فرشة قريبة، وضعها تحت إبطه. سلم على كل من يقابل فى طريقه ببشاشته المعهودة. سار قرابة نصف الساعة، وصل أخيراً إلى الميدان حيث أشارت عقارب الساعة للسابعة صباحاً، ميدان يتوسطه خضرة عامرة، تدور من حولها السيارات فى أفلاك تعرفها جيداً. يعرف نجيب الطريق، اختار مقهى يطل على الميدان، يكشفه بالكامل، تمثالا عمر مكرم وعبدالمنعم رياض يلوحان فى الأفق، مجمع التحرير يظهر، والسيارات تمضى صغيرة الحجم من علٍ، البشر يروحون ويجيئون، فى الدور الثانى من مقهى «على بابا» تكون تلك الصور واضحة، لذا يجلس عليها واحد من أهم الأدباء العرب عبر التاريخ، نجيب محفوظ. مقهى على بابا، الذى حمل فيما مضى تاريخاً ممتداً، حيث كان مقراً لصباح أديب نوبل، يجلس عليه من السابعة صباحاً حتى التاسعة، يقرأ الجرائد، ويشرب القهوة، ولا ضرر من تدخين سيجارة تصنع مزاجه. لم يكن نجيب يكتب فى المقهى، فموعد كتابته كان فى الثالثة عصراً فى منزله، لكن المقهى بالنسبة إليه كان يعنى «روح الحياة»، المكان الذى يقابل فيه شخوصاً يرسمها فيما بعد فى رواياته، فى مقهى «على بابا» كان يستمع إلى أحاديث الجلوس فى السياسة والدين وحال الوطن، يحتسون الشاى، أو يشربون الشيشة، من لا يعرف الناس، لا يجيد الكتابة، ومن لا يقترب من همومهم، لا يتقن التعبير عما يدور فى هواجسهم. وعى نجيب الدرس جيداً، فاختار المكان الذى يطل على ميدان التحرير، ويحمل على كراسيه صنوف عديدة من البشر. رحل نجيب محفوظ، لكن رائحته لم تغب عن مقهى على بابا، وحين قامت ثورة 25 يناير، من عام 2011، فكر القائمون على المكان فى تغيير جلد المقهى ليصبح «كافيه» أطلقوا عليه اسم «بلادى». ميدان التحرير كان مقراً لمجلس قيادة الثورة، لذا فإن «كافيه» فى المكان لن يغيب عنه الحضور. «قائمة الطعام» الخاصة بالكافيه مزينة فى آخر صفحاتها بتاريخ المكان الذى يفخر بأن نجيب محفوظ كان رائداً من رواده. يجلس فى «بلادى» حالياً، «على بابا» سابقاً، مختلف الطبقات الاجتماعية، بحسب مصطفى محمد عامل المكان. ياسر عمر، معيد بكلية التجارة جامعة القاهرة، يعيش فى المنصورة، لكنه يسافر بشكل يومى لظروف عمله. يجلس فى الدور الأرضى، يشرب شراباً مثلجاً يخفف من وطأة الحر، بجانب قطعة من الجاتو كفطار. يعرف ياسر أن المكان كان مقراً لنجيب محفوظ، يقول إن ذلك أمر جيد، لكن لا يشغله كثيراً، فهو يحب المكان لأنه يطل على ميدان التحرير الذى يحمل له فى قلبه ذكريات لا تنسى، يفضل ياسر «الكافيه» ولا يحب القهوة الشعبية «كل زمن وليه طريقته»، يرتاح أكثر على الكراسى الجلدية الوثيرة، وهواء التكييف الذى ينبعث من حوله. يجلس المعيد بكلية التجارة فى «بلادى» للعمل أحياناً وليس للتسلية فحسب، إذ يقوم بتحضير المادة العلمية التى يشرحها للطلبة، أو إكمال رسالة الماجستير خاصته. قرر القائمون على كافيه «بلادى» استغلال ذكرى نجيب محفوظ، فى تحويل المكان الذى ألف الجلوس فيه بالدور الثانى إلى صالون ومكتبة، الصالون عبارة عن كراسى جلدية كبيرة، والمكتبة لا يوجد بها سوى رواية مصر القديمة لنجيب محفوظ، والمثير أن من يختار الجلوس فى مكان نجيب محفوظ، عليه أن يدفع 35 جنيهاً كحد أدنى. نسى القائمون على المكان، أن صخب المقهى، وكراسيه الخشبية القديمة، وطاولاته المعدنية المتهالكة هى التى تصنع روح المكان وتحتفظ بأثره التاريخى.