« الرَّبُّ لِى فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِى الإِنْسَانُ؟» هدوء.. يجعل ترانيم الصلوات الصوت الوحيد المسموع فيها. سكينة كمن يجلس فى انتظار لقاء الرب. فرحة بصوت خفى تأبى الظهور حزناً على الدماء التى لا تزال تنتشر على جدرانها، واستعدادات للاحتفال بعيد القيامة تحولت إلى صلوات وابتهالات للرب بأن يرحم الشهداء الذين آثروا أن يذهبوا هم من أجل أن تبقى كنيستهم. صليبك الذى على يديك أو إبراز بطاقة تحقيق شخصيتك من أجل السماح لك بالدخول، ثم سماع صوت الحارس وهو يعتذر لك عن هذا الإجراء الأمنى «غَطّى الْخَجَلُ وَجْهِى»، ومساحة فضاء يهرول من يقف فيها إلى فناء الكنيسة للحاق بركب المصلين داخل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية التى بناها بطرس باشا غالى على قطعة أرض مملوكة للأنبا رويس فى ستينات القرن الماضى بجوار الكنيسة البطرسية، وتبرع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر لها بمبلغ خمسة آلاف جنيه، وحضر افتتاحها ومعه الإمبراطور هيلاسيلاسى إمبراطور الحبشة، والأنبا كيرلس السادس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية فى يوم 25 يونيو عام 1968. أزمات متلاحقة، وبذور للفتنة الطائفية، وجدت طريقها فى مصر خلال الشهور الأخيرة فحصدت أرواح عشرات الشهداء، وحالة أمنية لم يعد الاطمئنان إليها السمة الغالبة على غالبية رواد الكنيسة الأم. «ربنا خلقنا علشان نكون رسالة خير وسلام فى الأرض، بس للأسف الصراع بين الناس على كراسى الدنيا خلاهم نسيوا» يستطرد «سعيد جرجس» أحد رواد الكنيسة وهو يتكئ على عكازه الخشبى «زمان كنا بنيجى هنا علشان قلبنا يطمن ونبعد عن مشاكل الدنيا، ودلوقتى بقينا عاملين ذى اللى بيصلى تحت ضرب النار، واحنا بنشوف دم الشباب وهو مغرق مداخل الكنيسة». الرجل الثمانينى يرى أن ثمة فتنة قد قسمت المجتمع المصرى خلال السنوات الأخيرة منذ أواخر عهد «مبارك» حتى الآن، وأن القائمين عليها هم من يواصلون إشعالها حتى الآن لأغراض سياسية ودنيوية من أجل الوصول إلى كراسى حكم، ونسوا أنه لن يكون شىء غير ما يريده الله «لأَنّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرّ اللهِ». الحديث إلى أحد من القساوسة والرهبان داخل جدران الكنيسة يكاد يكون ضرباً من الخيال، فالكل اتجه إلى الله للتضرع وطلب المغفرة وقرروا أن يتركوا الدنيا خلفهم «لأن هذه الأيام من الأيام التى يستحب فيها التقرب والدعاء إلى الله» كما يقول الحراس وأفراد الأمن، أما زوارها فلا مانع من الحديث إليهم، ولكن قبل أن يدخلوا إلى فناء العبادة «لأنهم بيطلعوا فى حالة روحية بتخليهم يرفضوا يتكلموا مع حد». «الناس اللى بتدخل هنا مش فارق معاها لا سياسة ولا غيره، إحنا بنبقى جايين علشان خاطر ربنا، بس غيرنا هما اللى السياسة مسيطرة عليهم» يتحدث نبيل زكى أحد رواد الكاتدرائية (45 سنة). يواصل قائلاً إن الاحتفال بالعيد أصبح أمراً فى غاية الصعوبة لأنه ليس من السهل علينا نسيان عشرات الشهداء الذين لا تزال رائحة دمائهم فى المكان، بالإضافة للمخاوف التى تلاحقنا من تكرار مثل هذه الحوادث سواء هنا فى الكاتدرائية أو فى كنيسة أخرى. «العمليات الإرهابية لا تؤثر على الروحانيات فى المكان لأنها تجلٍّ من الرب الكريم على عباده»، يضيف «نأمل فى أن يمر عيدنا هذا العام بلا دماء ويكفينا الآلاف الذين سيكتفون برسم الابتسامة على وجوههم فقط دون قلوبهم بسبب الأحداث الماضية ولدينا يقين فى رعاية الله لنا». تتسلل الترانيم من الداخل «بما أن الرب طويل الأناة، فلنندم على هذا، ونلتمس غفرانه بالدموع المسكوبة. إنه ليس وعيد الله كوعيد الإنسان».