أبصارهم شاخصة، وجوههم لا تتوقف عن الاستدارة فى أرجاء المكان، يتحركون عزلاً فى أسراب صغيرة من محطة مترو «الدمرداش» متجهين ناحية مبنى الكاتدرائية المحاصر، بلهفة وحذر يستفسر أحدهم من العائدين من هناك «هى الاشتباكات لسه شغالة؟»، يأتيه الرد «الدنيا خراب والله يا ابن عمى»، فيما يردد شاب آخر بسخرية «دى سكة اللى يروح ما يرجعشى واحنا رايحين». سواد الليل يتسلل إلى سماء المكان ويختفى ضوء النهار الذى كان أكثر سواداً على أهالى المنطقة وروادها، رائحة قنابل الغاز تزكم أنوف السائرين من بعيد، طلقات الرصاص يدوى صداها فى أرجاء المكان، سيارات الإسعاف لا تكف عن العويل، أمام البوابة الخلفية للكاتدرائية، يحتشد المئات أمام البوابة، يردد المحتشدون أمام البوابة بعض الهتافات بين الحين والآخر «بالروح بالدم نفديك يا صليب» مصحوبة ببعض الترانيم الدينية بقولهم «أبانا الذى فى السماء دبر لنا أمرنا». «الشرطة وأهالى المنطقة هما اللى ضربونا واحنا داخل الكنيسة».. بهذه الاتهامات يحمّل مينا ميلاد -أحد شباب الأقباط المحتشدين عند الباب الخلفى للكاتدرائية- قوات الأمن وأهالى العباسية مسئولية الأحداث، قائلاً: نحن جئنا إلى هنا لإقامة مراسم ولتشييع جنازة ضحايا الخصوص، «وهما اللى بدأوا فى الاعتداء علينا»، مما دفعنا إلى اللجوء إلى الكنيسة لصد الاعتداء علينا، زى ما هما ضربونا بالمولوتوف والخرطوش، احنا ردينا عليهم بالخرطوش والمولوتوف، يصمت لبرهة قائلاً «هو ليه الضحايا على طول بيبقوا من المسيحيين؟». بينما زادت حدة الاشتباكات التى امتزجت بالعنف الشديد بين طرفى الصراع: أهالى المنطقة وقوات الأمن من جهة، وشباب الأقباط الذين اعتلوا أسطح المبانى خلف أسوار أكبر مؤسسة قبطية فى مصر من جهة أخرى، واستخدم كل طرف أسلحته فى الاشتباكات، حيث ردت قوات الشرطة بقنابل الغاز المسيل للدموع على زجاجات المولوتوف وطلقات الخرطوش القادمة من فوق أسطح الكاتدرائية، وانتشر المئات من العناصر المجهولة بصدورهم العارية حول رجال الشرطة متسلحين بأسلحة محلية الصنع تتنوع ما بين «المقروطة والفرد والمولوتوف»، ومع سخونة الاشتباكات بين القابعين فوق أسطح الكنيسة، والمنتشرين خارج جدرانها، تداخلت هذه العناصر المجهولة وسط أفراد الشرطة التى لم تعترضهم أو تلقى القبض على أحدهم، بل اشتركوا معاً فى التصدى للضربات القادمة من داخل الكنيسة. بينما يبرر بولس حنا أحد الأقباط المحتشدين أمام المدخل الخلفى للكاتدرائية استهداف شباب الأقباط رجال الشرطة بزجاجات المولوتوف الحارقة وطلقات الخرطوش، لقناعتهم بأن رجال الشرطة هم السبب فى قتل ضحايا الخصوص بسبب تأخرهم فى الوصول لمكان الاشتباكات، وكانت نتيجة ذلك سقوط قتلى من الأقباط. ووضعت الاشتباكات أوزارها مع وصول وفد أمنى من قيادات وزارة الداخلية، يضم مدير مباحث القاهرة وبعض القيادات من الأمن العام، بعد الدفع بقوات إضافية من رجال القوات الخاصة، التى قامت بعمل كردون أمنى أمام المدخل الرئيسى للكاتدرائية وغلق جميع الشوارع المتفرعة أمام المبنى، التى كان يحتمى فيها العناصر المجهولة، ونجحت هذه الإجراءات فى وقف الاشتباكات لعدة ساعات معدودة، لتعود الاشتباكات بصورة أقل ضراوة إلى الشوارع الجانبية، خاصة شارع الشافعى المجاور لسور الكاتدرائية الذى يقبع فى نهاية مدخلها الخلفى، والذى شهد العديد من الاشتباكات بين أهالى المنطقة وبعض شباب الأقباط. اتهم كريم رمضان، أحد سكان المنطقة، الذى يقف وسط المحتشدين على بعد عشرات الأمتار من باب الكاتدرائية الرئيسى، الأقباط بأنهم السبب فى اندلاع هذه الاشتباكات، موضحاًً أنهم تجمعوا أمام الكاتدرائية قبل الظهر أمام باب الكنيسة وقاموا بقطع الشارع لتشييع جثامين ضحاياهم، وكان هناك بعض سكان المنطقة يقبعون فى شرفات منازلهم المطلة على شارع رمسيس لمشاهدة تشييع الضحايا، ولكن بعض الشباب من الأقباط قاموا بسبهم بالدين طالبين منهم عدم النظر إليهم، وهو ما دفع الأهالى للرد عليهم، وسرعان ما تطورت الأحداث التى بدأت بتبادل الشتائم والسباب إلى الاشتباك بالحجارة والأيدى، بعدها لجأ الأقباط إلى داخل الكاتدرائية، وقاموا بإلقاء زجاجات المولوتوف والخرطوش علينا فى الخارج، وعندما وصلت قوات الشرطة استمر إلقاء زجاجات المولوتوف علينا فى وجود الشرطة، وقامت الشرطة بإلقاء قنابل الغاز عليهم داخل الكنيسة. يعود الهدوء إلى المكان من جديد بوصول مظاهرة تضم المئات من المتظاهرين، بهدف القضاء على هذا الاحتقان، مرددين هتافات «يا مسلم قول للقبطى مصيبتك هى مصيبتى»، «مسلم ومسيحى إيد واحدة»، «لازم نرجع زى زمان»، «يا مرسى يا بديع دم القبطى مش رخيص». وفى العاشرة مساءً استقبل الشباب القبطى وأهالى العباسية، وزير الداخلية بالهتافات التى تندد بسياسات الداخلية وتحميلها مسئولية تصاعد الأحداث، منها «يسقط وزير الداخلية» و«الداخلية بلطجية»، مما دفع الوزير والوفد المرافق له إلى مغادرة المكان. وداخل أروقة الكاتدرائية، قبع قرابة 3 آلاف فرد فى ساحتها الرئيسية، اتخذوا قرار المبيت تحسباً لتجدد الاشتباكات، قبل أن يتجهوا لتقسيم أنفسهم ما بين «فرق أمنية» انضموا لفرق الكشافة على البوابات الأربع للكنيسة و«سيدات» انضممن لفريق المستشفى الميدانى الذى تم إنشاؤه داخل كنيسة الأنبا رويس أو ما يعرف ب«المسرح الإكليريكى»، وآخرون تفقدوا خسائر المعركة ما بين واجهات محترقة للمقر البابوى وزجاج متناثر لنوافذ المبانى الخدمية بالكنيسة. حجزت لنفسها موقعاً بعيداً عن الأنظار، مسترجعة تفاصيل مذبحة ماسبيرو قائلة «المشهد بيتكرر بحذافيره.. نفس البلطجية اللى ضربوا جنازة مينا.. هما اللى بيضربونا دلوقتى» هكذا تحدثت مارى دانيال الشقيقة الكبرى للشهيد مينا دانيال الضحية الأشهر لمذبحة ماسبيرو فى أكتوبر 2011، موضحة أن العناصر التى هاجمت الآلاف من مشيعى جنازة «الخصوص» مجرد «أداة» بحسب تعبيرها لنظام فاشى يستخدم ذراع البلطجية فى محاولة للسيطرة على وطن فشل فى إدارته، قبل أن تتوقف برهة قائلة «مرسى قال مش هيفرط فى حق الشهداء.. وكرم طنطاوى وعنان اللى دهسوا مينا بالمدرعات» مستكملة حديثها «المسلمين جوه الكاتدرائية أكتر من المسيحيين، الكل جاى يحمى بيت ربنا». المسرح الإكليريكى التابع لكنيسة الأنبا رويس تحول ل«غرفة عمليات مصغرة» بعدما انتهز أطباء المستشفى الميدانى فرصة توقف الاشتباكات بشكل مؤقت لإجراء العمليات الجراحية للمصابين، الذين قدرت أعدادهم بحسب الطبيب أمير جورج لقرابة 300 إصابة بطلقات الخرطوش.