تمكّن عالمنا الحديث من تسليع الدين فى منتجات مستحدثة تغطى كافة رغبات أصحاب المظهر الدينى الشكلى؛ فأصبح لدينا المتدين «الفضائى» الذى يقتات الفتاوى من موائد القنوات الدينية الفضائية ويأخذ منها يقين حجته ومعارفه الدينية، وأصبح لدينا المتدين «المودرن» الذى يرتكب كمية لا بأس بها من الذنوب ويستغفر ربه بعد ذلك، وسيغفر له كما أكد له شيخه المودرن بأن هذا جائز، وهناك المتدين «الحداثى» الذى يستخدم كل الأجهزة الحديثة -كالموبايل على سبيل المثال- لبث التدين المسموع إجباراً على الناس فى الأماكن العامة وخصوصاً وسائل المواصلات، وهناك التدين «الشبكى» المُرسَل عبر شبكة النت من خلال صور ورسائل دينية تمحو كل الذنوب لمن يقرأها، أما من ينشرها فله أجر يعادل مائة أو ألف أو مليون ثواب، يحصل عليها الشخص بكل بساطة فى حالة إعادة التوزيع على آخرين، والتى لن تكلفه سوى ضغطة زر على الجهاز، وهناك المتدين «السبّوبة» والمتدين «المؤقت»، وعشرات الأنواع التى لن يكفى المقال هنا لسردها. * لم يعد التدين لدى كثيرين هو علاقة الإنسان بربه من فروض وعلم وروحانية ثم انعكاس هذا على أخلاقياته وتعامله المهذب مع الآخرين، بل تحول لظاهرة عالية الصوت والشكل تبجحت على حريات الآخرين، لتصير فكرة يرغب صاحبها فى فرضها بالترهيب؛ فباسم التدين الشكلى الآن يمكن لشخص أن يطيل لحيته، ثم يرى فيمن لا يطيلها خروجاً عن الدين، باعتبار أن اللحية فرض! أو أن يلبس جلباباً قصيراً وصندلاً ويحمل سواكاً، ثم يرى فيمن لا يتصرف مثله تنازلاً عن السُّنة! وباسم التدين الشكلى الآن، يمكن لشخص أن يجاهد فى إقناعك بأن الفنون حرام؛ فالغناء غير جائز والنحت عودة لأصنام الجاهلية والرسم مسخ لتقليد الخالق والرقص بدعة ومن الشيطان! وباسم التدين الشكلى الآن، يتم رفع الأذان فجراً بأصوات ميكروفونات مزعجة، وإن شكوت لإزعاج الصوت -خصوصاً فى ساعات الفجر وأن هناك مرضى وأطفالاً ينزعجون- فسيكفّرونك على أنك ضد كلام الله وضد إقامة الصلاة! باسم التدين الشكلى الآن، توجد قنوات تفتى للناس فى دخول الحمام وفى طريقة النوم وتناول الطعام ولون الملابس والدعاء للمريض والممتحن، ولا تنتقد غياب الماء والكهرباء وشح الطعام وسوء إدارة المستشفيات والمدارس وكل مصالح الدولة! وباسم التدين الشكلى الآن، أصبحنا، بعد مئات السنين، نسأل هل يجوز أن نهنئ المسيحيين فى عيدهم أم لا، وهل نصافحهم ونأكل معهم أم لا، وألف سؤال من نوع (هل) الذى يحمل قطعية الإجابة وحسمها فى (لا) على الأغلب وقليل من (نعم) من فتاوى الدليفرى! وباسم التدين الشكلى الآن، أصبح المتدين، شكلاً أيضاً، يتحرش بالأنثى ويعتبر خروجها ذريعة بأنه على حق، ويعتبر بالضرورة أن غير المحجبة أو غير المنتقبة بالضرورة آثمة ولا تؤدى فروض الله! وباسم التدين الشكلى الآن، أصبح من حق من يعتبر نفسه متديناً وحامياً للأخلاق والفضيلة أن يوقف الناس فى الطريق للتثبت من علاقاتهم، هل المرأة السائرة مع رجل هى زوجته أم أخته أم أمه أم ابنته؛ وعلى المتهم أن يثبت حلال العلاقة! * الأزمة الأكثر بروزاً هى تعدد فرق هؤلاء الإسلاميين الجدد بل عداؤهم لبعضهم البعض، فهؤلاء لا يطبقون صحيح الشريعة وهؤلاء متشددون، وهؤلاء متساهلون، وينشق عن الفصيل الواحد أكثر من جماعة تعادى كل واحدة الأخرى، لتخرج كل واحدة للدعوة على طريقتها للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فتكفر كل جماعة جزءاً من الناس ليصبح المجتمع كله فى النهاية كافراً. المشكلة أن كل جماعة تعتقد أن رؤيتها هى المصيبة وهذه مصيبة فعلاً! (فيينا، 1 مايو 2013)